لم يقبل الرئيس ميشال عون أن يسجِّل على نفسه مرور أيلول من دون أن يفي بالحدّ الأدنى من وعده. فهو قال قبل شهر: «في أيلول سيكون لنا حديث آخر، إذا لم تتألف الحكومة». وهكذا، تدارك الرئيس انتهاء الشهر الموعود، فكان حديثه الجديد: «شكِّلوها بالتوافق… وإلّا فلتكن حكومة أكثرية». وهذا الخيار لم يكن يستسيغه قبل اليوم، مع أنّ رئيس «التيار» الوزير جبران باسيل لوّح به أحياناً. فهل إنّ تهديد عون قابل للتنفيذ؟ أم إنّ مفاعيله زالت قبل وصول الطائرة الرئاسية من نيويورك إلى بيروت؟
لن يكون هناك جديد في أيِّ «طبخة» حكومية يمكن أن يطرحها الرئيس المكلّف سعد الحريري على رئيس الجمهورية بعد عودته من نيويورك. فالصورة واضحة لدى الجميع، والتشاور في الأفكار لم ينقطع بين جميع المعنيين منذ 3 أيلول الفائت حين عرض الحريري على عون رسمياً «صيغة وفاقية»… «لا ينتصر فيها أحدٌ على أحد»، كما قال الحريري حينذاك، وهو ليس مستعدّاً لإجراء تعديلات على تلك الصيغة التي أسقطها عون وباسيل بالضربة القاضية. ولم تنجح اتصالاتٌ ولقاءاتٌ عدة بينهما وبين الحريري في خرق النفق المسدود.
وبعد سفر عون إلى نيويورك، استكمل الحريري مشاوراته ضمن «التحالف الثلاثي» الذي يضمّه ورئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع ورئيس الحزب التقدمي الأشتراكي وليد جنبلاط.
في لقاء الحريري – جعجع، في «بيت الوسط»، ظهرت خلاصة الموقف «القواتي» كالآتي: «كلما تنازلنا لتسهيل التسوية، يطالبوننا بتقديم تنازل أكبر. لذلك، سنعود إلى الطرح الأول ونطالب بحقنا الطبيعي: نحن نمثّل ثلثَ المسيحيين، باعتراف باسيل. ولذلك، مِن حقّنا أن نتمثّل بثلث الوزراء المسيحيين، أي بـ5 وزراء». وهكذا وضع جعجع طَرْح الـ5 وزراء أمانةً في يد الرئيس المكلَّف. وبعد ذلك لكل حادث حديث.
في الموازاة، خلاصة موقف جنبلاط هي التمسّك بتمثيل الوزراء الدروز الثلاثة. ففي ذلك هو يصبح قادراً على امتلاك ورقة ثمينة جداً هي «الفيتو» الميثاقي الطائفي. وهذه الورقة قادرة على إسقاط الحكومة، إذا اقتضى الأمر.
كما أنّ حيازة جنبلاط للوزراء الدروز الثلاثة يكرِّس إمساكه وحده بكل المفاصل المتعلقة بالطائفة، من دون خرق. وتالياً، هو يقطع الطريق على تأسيس ثنائية درزية يتلقّى فيها النائب إرسلان دعم سوريا وبعض حلفائها ورئيس الجمهورية.
لذلك، في المضمون، يلتزم الحريري شروط جنبلاط في أيّ تشكيلة يعرضها على عون. لكنه، في الشكل، ولإظهار أنه يسهّل التسوية، يطرح الحريري أن يكون الوزير الدرزي الثالث وسطياً بين جنبلاط وإرسلان. وفي العمق، هناك حرصٌ على أن يكون هذا الوزير محسوباً على جنبلاط، في اللحظة الحاسمة، لا على سواه.
حتى الآن، لا شيءَ يمنع جعجع وجنبلاط من التمسّك بشروطهما، ولا شيءَ يجبر الحريري على أن يتخلّى عنهما ويبرم صفقة مع «حزب الله» و»التيار» والآخرين بمعزل عنهما. والسبب هو وجود توازن رعب ومصالح بين القوى على الساحة اللبنانية، وتجنّب «حزب الله» الخيارات الاضطرارية لفرض تأليف الحكومة فوراً ووفقاً لمصالحه.
ويبدو الحريري مقتنعاً بأنّ «الحزب» لن يستعيد نماذج التعاطي السابقة مع عمليات تأليف الحكومة، وهو مرتاح إلى الإشارات الإيجابية المتبادلة معه، والتي عبّرت عنها وقائعُ جلسات التشريع النيابية ومواقفُ الحريري خلال مرافعات المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في لاهاي.
إذاً، الحريري يتوخّى إراحة «حزب الله»، ولا يريد أيَّ توتّر مع رئيس الجمهورية و»التيار»، ويطَمْئِن المعنيين إلى أنه متمسّكٌ بتسوية 2016 ونهجها. لكنه يستفيد من هذا المناخ ليدافع عن جعجع وجنبلاط اللذين يستقوي بهما لإقامة حدّ أدنى من التوازن داخل الحكومة العتيدة.
وكثيرون مقتنعون بأنّ الحريري يلتزم نصائح إقليمية ودولية للتماسك مع جعجع وجنبلاط منعاً لتسليم قرار البلد لـ»حزب الله». وثمّة مَن يعتقد أنّ هناك نصائح للثلاثة بـ»الصبر» والمواجهة في عملية التأليف، لأنّ «الحزب» سيكون بعد أسابيع أو أشهر أضعف ممّا هو اليوم، بعد تبلور الضغوط والعقوبات العربية والدولية عليه وعلى إيران في لبنان والمنطقة. وهناك مَن يرى أنّ البناءَ على هذه التوقعات أمرٌ ممكن.
إذاً، لا الحريري ولا جنبلاط ولا جعجع يشعرون بالقلق في هذه الفترة. ولذلك، هم لم يتأثروا بتلويح عون بحكومة أكثرية. وحتى الزيارة التي قام بها النائب أكرم شهيب الى معراب، موفداً من جنبلاط، لم تتوقف كثيراً عند تهديد عون، بل تجاوزته إلى أفكار أخرى أكثر حيوية.
ووفق المعلومات أنّ جنبلاط وجعجع مقتنعان بأنّ الحريري لن يقدّم لعون أيَّ صيغة تتضمّن تنازلاً عن الحصة التي يطالب بها كل منهما. وبكل تأكيد، لن يتجاوب الحريري إطلاقاً مع طرح حكومة الأكثرية، لأنه يعني بالدرجة الأولى أنّ الرئيس المكلّف وافق على عزل نفسه. وهذا أمر مستحيل دستورياً وسياسياً.
وأما عزل جنبلاط وجعجع، فهو أمر يرفضه الرئيس نبيه بري وغالبية القوى في المجلس النيابي، بما فيها «حزب الله» الذي يريد من الحكومة أساساً أن تشكّل له أوسعَ مظلّة عربية وإقليمية ودولية واقية في الظروف الصعبة الآتية.
وفي قراءة جنبلاط وجعجع أنّ دعوة عون إلى حكومة أكثرية ليست سوى محاولة أخرى للضغط في اتّجاه تأليف الحكومة، بما يلائم الفريق الذي يدعمه، وأن لا مفاعيل دستورية أو سياسية لهذه الدعوة، تماماً كما كل الدعوات التي أطلقها سابقاً. فقد سبق لعون أن طالب بالتزام الرئيس المكلّف مُهَلةً زمنيّةً للتأليف، وذهب بعض القريبين من القصر إلى حدّ إطلاق فتاوى دستورية تقول بإمكان سحب التكليف من الحريري. ولوَّح عون بأنّ أيلول هو الحدّ الأقصى الذي يقبل به لانتظار ولادة الحكومة.
ويلتقي المحيطون بجنبلاط وجعجع على القول: كما انتهت كل هذه التهديدات بلا نتيجة، فكذلك سيكون مصيرُ التهديد بحكومة الأكثرية. وهذا الموقف لا يخيفنا ونحن لا نشغل أنفسنا بالبحث عن طريقة للتعاطي معه، لأن لا فاعلية له أساساً. وبالتأكيد، إنّ حكومةً من هذا النوع لا يمكنها أن تحظى بالغالبية الكافية لتنال ثقة المجلس النيابي.
وعلى العكس، هناك اتّجاه إلى جولة ثانية من تشريع الضرورة، وتشجيع للحريري على عقد «مجلس وزراء الضرورة». وهذه الفكرة ما زالت قيد التبلور، لجهة ما تتضمّنه من إيجابيات وسلبيات.
أمرٌ واحد يحرص عليه جنبلاط وجعجع، وهو «صمود» الحريري وعدم التنازل تحت ضغوط الترغيب والترهيب والتزام الدفاع عن «التحالف الثلاثي». فلا أحد يستطيع أن ينتزع من الحريري التكليف ولا أن يفرض عليه التأليف… وحتى إشعار آخر، «حزب الله» يتجنّب استخدام أسلوب التخويف!