دخلت قوى محور الممانعة منذ الثامن من الشهر الجاري حالاً من الذهول بعد سقوط النظام في سوريا وهروب بشار الأسد الى موسكو، هي المترنحة منذ 28 نوفمبر/تشرين الثاني تحت وطأة اتّفاق وقف إطلاق النار الذي فرضته وقائع المواجهة بين العدو الإسرائيلي وحزب لله.
إقفال طريق طهران بيروت بالإتّجاهين بعد سقوط الأسد أسقط احتمالات استعادة المبادرة من قِبل المحور المذكور والإلتفاف على مفاعيل الإتّفاق عبر تجديد متاهة التطبيق التي استُخدمت منذ العام 2006، بمعنى جعل مجرى الليطاني هو الحدّ الفاصل بين طهران وتل أبيب بدلاً من الحدود الجنوبية. وما بين التسليم بالخروج من المشهد الإقليمي والبحث المستحيل عن مسوّغات للحفاظ على مكتسبات الداخل يكمن مأزق العثور على رئيس للجمهورية يستوفي مستلزمات الملاءمة مع الواقع الجديد، كما يكمن مأزق خسارة الحليف الإقليمي وفقدان فائض القوة بعد سقوط الأسد ووهن طهران.
وفي خضم هذا الركود السياسي وافتقاد المبادرة الذي يعيشه حزب لله وحلفاؤه أعلن وليد جنبلاط ترشيح العماد جوزيف عون لرئاسة الجمهورية وأتبعه بزيارة دمشق مع شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ سامي أبي المنى على رأس وفد وازن من المشايخ وأعضاء اللقاء الديمقراطي لتقديم التهنئة لقائد الإدارة السياسية الجديدة أحمد الشرع بإنتصار الثورة في سوريا.
يتكامل الحدثان لناحية الدلالات على مرحلة جديدة ببعديّها المحلي والإقليمي. يتعدى ترشيح العماد عون إسقاط مبدأ التسليم بمرشح درجت دمشق وطهران على اختياره ليتحوّل الى مرشح توافق قسري بفائض قوة السلاح، نحو جاهزية جنبلاط للتمرد على تحالفات لطالما رضخ لشروطها تحت عنوان الحفاظ على العيش المشترك والسلم الأهلي. من جهة أخرى فإن مجاهرة جنبلاط أمام حلفاء الأمر الواقع ، بزيارة دمشق ـــــــ التي يحكمها أحمد الشرع قائد هيئة تحرير الشام على رأس تحالف العمليات المشتركة لفصائل المعارضة ـــــــ تعني أن سوريا الأسد التي بقيت أكثر من عشرين عاماً مصدر قلق لجنبلاط وسيفاً مصلتاً على قوى المعارضة قد ذهبت الى غير رجعة، وأن للقيادة الجديدة منطلقاتها الوطنية سواء على المستوى الداخلي فيما يتعلق ببناء دولة المواطنة والقانون وتكافؤ الفرص بين مواطنيها كما على المستوى الإقليمي فيما يتصل بإعادة سوريا الى موقعها الإقليمي وإقامة علاقات مع العالم العربي على قاعدة احترام السيادة الوطنية والمصالح المشتركة.
قدّم أحمد الشرع أمام ضيفه مواصفات جمهوريته الجديدة العازمة على شطب الماضي المظلم بكل مآسيه وارتكاباته والمطمئنة للبنانيين على اختلاف مواقفهم من قوى الثورة السورية، مشدداً على مشاركة شرائح المجتمع السوري في بناء سوريا الجديدة واحترام حقوق الأقليات في جنوب سوريا وشمالها، مستبقاً كل ما يمكن أن يُنسب أو قد نُسب الى قوى الثورة من إلتحاق بالإسلام السياسي المتطرف أو التمسك بمكتسبات أو بأدوار لا تجيزها العلاقات بين الدول ذات السيادة.
لاقت كلمات الشرع مضمون المذكرة الجنبلاطية حول بناء علاقات صحية وثابتة بين لبنان وسوريا. لقد كان الشرع واضحاً بأن لبنان بالنسبة لسوريا الجديدة لم يعد الخاصرة الرخوة التي تستوجب تدخل دمشق لإرشادها في اختيار حكامها أو التي تُعاقب بإقفال الحدود، ولا هو الخطأ الجغرافي الذي أنتجته قوى الإستعمار في سايكس بيكو بما يستوجب إسقاطه من الكتب المدرسية في سوريا، بل هو الدولة الشقيقة المكتملة السيادة التي لن تستدرج القيادة الجديدة الى ساحاتها للعبث بمكوّناتها، وفي هذا أكثر من رسالة الى حلفاء الأسرة الأسدية المخلوعة في لبنان وإلى طهران على حدٍّ سواء. لكن ما شاءه جنبلاط من خلال مذكرته حول إلغاء المجلس الأعلى السوري اللبناني ومراجعة كل الإتفاقيات السابقة الموقّعة بين البلدين وترسيم الحدود البحرية والبرية وإقفال المعابر غير الشرعية ومنع التهريب وإجراء محاكمات عادلة بحق الذين تورطوا في عمليات الإغتيال في لبنان، كان إعلان سقوط مرحلة الوصاية السورية على لبنان بكل ما اعتراها من إعتداءات متكررة على السيادة واستباحة للقرار السياسي.
يُسجّل لجنبلاط صبره الطويل وقدرته على التعايش المرير مع حلفاء لا يشبهونه داخل السجن الكبير الذي تمرّد عليه كمال جنبلاط وأدى الى استشهاده، هو صاحب نظرية الإنتظار على ضفة النهر الذي حمل إليه جثث خصومه ولو بعد حين. ويسجّل له شجاعة الإنقلاب على حال الإستكانة والمبادرة عندما تحين اللحظة ودون النظر الى الوراء، مع الإبقاء على فرصة الإلتحاق به لمن يشاء. وما تأكيد جنبلاط أن مزارع شبعا هي سورية حتى الآن وفقاً للقانون الدولي سوى عودة لإتّفاق الهدنة ريثما يتمّ ترسيم الحدود مع سوريا وإيداع الأمم المتّحدة ما يثبت لبنانيتها وإسقاطاً لا عودة عنه لكلّ المبررات التي قامت عليها نظرية المقاومة الإسلامية.
ومع استمرار حال الإنكار والذهول اللتين تعيشهما الدولة اللبنانية الى أجل غير مسمّى بتعاملها مع أحمد الشرع كمتمرد قاد انقلاباً على سلطة شرعية وينتظر الإعتراف به، ترتسم خارطة طريق جديدة لعلاقات سوية ومتوازنة بين لبنان وسوريا بما يقصي الرهان على تكرار تجربة تحالف الأقليات التي عاشت عليها الجمهورية الإسلامية في إيران وجمهورية البعث في سوريا وبما يعيد لبنانية مزارع شبعا الى كنف القانون الدولي.