اثنان تخلَّيَا عن المكابرة منذ مدّة، ويبدِيَان ليونةً للاعتراف بالهزيمة: الرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط. ومع أن جزءاً من هذا الانكسار، يصيب المنكوبَيْن معاً في شخصَيْهِما، غير أنه إعلانٌ لهزيمة محورٍ مترامي الأطراف، ظنّ أن باستطاعته حذف سوريا و(المقاومة اللبنانية) عن الخريطة، بما تمثّل في الجغرافيا والوزن، وبما يعبّر عنه نظامها السياسي وتحالفاته.
ثمّ ما لبثت أطراف «محور العداء»، أمام الصمود السوري الأسطوري، أن بدأت تتساقط باحثةً عن مخارج، أو تُكابر وتقتتل في ما بينها، كما هو حال قطر وتركيا والسعودية والإمارات. أو، كما تقتات أصناف الجماعات الإرهابية بعضها على هياكل البعض الآخر.
أمعذورٌ من لا يملك رأياً، من «ينكش» ثأراً؟ من يسمع «معطىً» من «مصدر» دولي أو إقليمي «مُعتبَر»، فيبني رهاناً عليه؟ رهانٌ سرعان ما يخسر، بعد أن يخلّف خطيئة. ولا ثأر في السياسة.
في حالة الحريري، لا يُحسد الرجل على أزماته. ليس شماتةً، بل استباقٌ لـ«تربيح الجميل». فخداع العَامَّة، والمواقف التحريضية لسنوات، ثمّ تبدّل الموقف والمعطيات، ليست مشكلة «الخصم». أي إن الحريري، حين يعدّل لهجته تجاه حزب الله ويكفّ عن تحريض السوريين على دولتهم، لا فضل له بأن خالف مزاج مؤيّديه. «عقلنة» الجمهور مسؤولية «القائد». علماً بأن «الجمهور»، أثبت عقلانيته مراراً، أكثر من قياداته.
أمّا في حالة جنبلاط، فلم تكن معركة الجرود والتحيّات التي لا يكفّ عن إرسالها ببريد «تويتر» المستعجل لشهداء حزب الله، سوى ذروة انقشاع الغشاوة… عن رؤية الواقع الإقليمي الحديث. فمعركة الجرود سبقها وصول الجيش السوري وحلفائه إلى الحدود العراقية، واستقرار السويداء المحسوم، وانتخاب الرئيس ميشال عون، وقانون الانتخاب الذي يؤسس لبداية مرحلة لبنانية بتوازنات جديدة. وليس آخراً، زيارة جنبلاط وابنه لموسكو.
ومع أن مآزق «الجنبلاطية السياسية»، لا تقارَن بتلك «الحريرية»، التي لا تملك فرص الانفكاك الكلّي عن السياسة السعودية، إلّا أنها تؤشر إلى عمق الأزمة التي أدخل جنبلاط الدروز اللبنانيين إليها في المشرق المتحوّل، بربطهم إلى أمدٍ غير بعيد، بسياسة المملكة العربية.
رَبْط آل جنبلاط الدروز اللبنانيين في القرن الماضي، بـ«العمق العربي»، الذي تأرجح بين مصر عبد الناصر والثورة الفلسطينية والسادات وملوك آل سعود. ثم ما إن ثَبَّت الرئيس الراحل حافظ الأسد الدور السوري في الإقليم، حتى تحوّل هذا الارتباط الدرزي «العربي» إلى عمقه الحقيقي، سوريا، في سنوات من تأرجح العلاقات السورية ــ السعودية بين الجفاء وتفاهمات الحدّ الأدنى.
وفي جوهر هذا الرّبط ــ مع السعودية تحديداً ــ هاجس أقلّوي قديم، يُنشد التماهي الكلّي مع المحيط، «السّني»، وصكّ براءة لدروز لبنان، من تحالف أقلوّي مزعوم مع إسرائيل، يوم كان المزاج العربي مختلفاً، وكانت السعودية تتبنى موقف عداء للكيان المحتل… في العلن.
وفي سنوات ما بعد احتلال العراق، وضع جنبلاط جزءاً كبيراً من الدروز اللبنانيين في المركب السعودي والعداء لسوريا في آن واحد، بذريعة «العمق العربي».
فهل لا يزال يصلح هذا «العمق» اليوم؟ والأحداث أثبتت أن لا عمق عربياً أو «سنّياً» واحداً، بل «سنّيات» متصارعة من ليبيا إلى أفغانستان. العمق السعودي تحديداً، فرش كلّ أوراقه على مائدة بنيامين نتنياهو، بما يغني إسرائيل ويزيد عن «تحالف أقليات»، وبما يؤسس لمحورين جديدين، إسرائيل في أحديهما حليفة لـ«العمق العربي» الخليجي.
إذا كان منافسو الحريري يبنون أمجادهم على «اعتداله» الجديد، فإن منافسي جنبلاط كسبوا الرّهان على حصان سوريا والمقاومة. قلب المزاج الدرزي الجنبلاطي سهل، وله جذور تستمد فلسفتها، من براعة الاستمرارية التي مارسها الدروز، طوال الألف عامٍ الماضية. أصلاً، هناك شكوك بأن يكون هذا المزاج، في دواخله، كما صوّرته ماكينات الحزب التقدمي الاشتراكي الإعلامية والمناطقية في السنوات الماضية. ثم إن الحريري لا وجه «آخر» له، فيما يملك الجنبلاطيون فرصة المصالحة مع سوريا، بورقة غير «محروقة» اسمها تيمور جنبلاط. هذا ليس ترفاً، بل منطق التاريخ والجغرافيا، وبرّ الشام الآمن، هو «العمق العربي» الوحيد الباقي.