مَن يستمع إلى الهمس الدائر في العديد من الأوساط الدرزية يُسجّل مقداراً ملحوظاً من القلق: نحن الذين احتفظنا دائماً بالدور والموقع والنفوذ، نشعر بأننا اليوم على الهامش، ولم نعد نعرف ماذا سنحصد عندما ينتهي هذا الكباش الدائر حول قانون الانتخاب.
في البيئة الدرزية يقولون: نحن نعيش واحدة من أسوأ مراحلنا. وحتى دور الوسيط الذي لطالما اضطلعنا به في السنوات الأخيرة قد تلاشى.
عندما اندلعت الحرب السورية، حاول النائب وليد جنبلاط أن يضطلع بدور الوسيط بين الأسد ومعارضيه، لعل ذلك يشفي غليله السياسي ويمنحه القدرة على رعاية الوضع الدرزي هناك. وقد سخَّر جنبلاط علاقاته الجيدة مع موسكو لهذه الغاية. ولكن تبيَّن أنّ الحرب أكبر من ذلك، وأنّ لها أبعاداً أخرى.
وفي لبنان، سقط دور الوسيط الذي حاول جنبلاط الاضطلاع به، بين السنّة والشيعة، كما فعل دائماً منذ العام 2005. فهذه الوساطة لم يعد لها مكان بعد مجيء العماد ميشال عون إلى الحكم بصفقة مباشرة مع الرئيس سعد الحريري. ويحاول المسيحيون أن يكونوا في موقع جنبلاط التقليدي، «بيضة القبّان» بين السنّة والشيعة.
اليوم، يجلس جنبلاط جانباً، متّكلاً على أنّ صديقه الرئيس نبيه برّي لن يسمح بالتضحية به في أي صفقة حول قانون الانتخاب، وأنّ قادة المسيحيين والسنّة سيحجزون له موقعاً. وهو منشغل بتدبير الصيغة الفضلى لإدخال تيمور إلى المجلس النيابي، من دون منافسين من الدروز إذا أمكن.
مثلاً، لا يُخفي بعض القريبين من جنبلاط قلقه من قانون انتخاب يمنح الفرصة لقوى درزية لكي تدخل إلى المجلس وتشكل «إزعاجاً» لتيمور الطري العود في الزعامة، ومن هؤلاء مثلاً الوزير طلال إرسلان.
فهل يرغب جنبلاط هذه المرة في وجود «المير طلال» داخل الندوة النيابية أم لا؟ ويلاحظ البعض أنّ أرسلان لم يتلقّ دعوة إلى المشاركة في احتفال تقليد تيمور كوفية الزعامة في المختارة.
كما يخشى جنبلاط إقرار صيغ نسبية تؤدي إلى فوز شخصيات درزية كوئام وهاب في الشوف، إضافة إلى النائب فادي الأعور، عضو تكتل «التغيير والإصلاح»، في بعبدا حيث هناك نحو 30 ألف ناخب شيعي.
ولا يخفي جنبلاط، على غرار القوى التقليدية في سائر الطوائف، خوفه من «موجة المجتمع المدني» في أي صيغة نسبية. ويقول خصومه إنّ أكبر نسبة مشاركة في «الحراك المدني» يسجّلها الدروز من أهل الجبل، حيث لا مؤسسات أنشأتها المرجعيات الدرزية الدينية أو السياسية، إستشفائية كانت أو جامعية أو تربوية أو اجتماعية، كما هو الحال عند الطوائف الأخرى.
لكنّ مراهنة جنبلاط الحقيقية تكمن في إنشاء مجلس للشيوخ برئاسة درزي، أي برئاسته هو، بصلاحيات تقريرية في الشؤون «المصيرية». وهذا المجلس، كما يريده جنبلاط، هو صاحب القرار الأول في رسم الخيارات الاستراتيجية. وطبيعي أن تعمل كل المؤسسات الأخرى تحت سقف هذه الخيارات المحدّدة والمضبوطة ميثاقياً، سواء في التشريع أو في بناء مؤسسات الحكم ومراقبتها.
وإذا وفِّق جنبلاط في تحقيق هذا الحلم، فربما يكون قد فاز بالجائزة الكبرى وأصبح الرجل الأقوى في الجمهورية. ولكن من دون ذلك عقبات، أبرزها موقف برّي الذي يتمسّك بأولوية المجلس النيابي على مجلس الشيوخ.
وكان بعض أركان بري قالوا إنّ أبلغ الدلائل إلى أنّ رئيس المجلس يقدِّم التضحيات في سبيل بلوغ التسوية هو تشجيعه إنشاء مجلسٍ للشيوخ يمكن أن يأخذ منه جزءاً من صلاحياته. فعلى المستوى العملاني، إنّ مجلسي النواب والشيوخ يتكاملان.
طبيعي أن يحلم جنبلاط في أن يكون أميراً على «لبنان الكبير»، من خلال مجلس الشيوخ الذي هو «المجلس الملّي». ولكن في عهد عون، يبدو أنّ الدروز والمسيحيين يتصارعون للحصول على «جِلد الدبّ» قبل اصطياده.
يتمسك جنبلاط بأنّ روحية مناقشات «الطائف» تناولت مسألة رئاسة مجلس الشيوخ كضمانة تعطى للدروز. وفي أي حال، في بلد تتحصّن فيه الطوائف وراء المتاريس، يصبح مشروعاً أن تطالب طائفة مؤسِّسة للكيان اللبناني بضمانات لها. وليس كثيراً على الدروز أن يكون لهم موقع يوازي دورهم التاريخي في تأسيس لبنان.
وفي المقابل، هناك منطق في ما يطرحه الوزير جبران باسيل، مستنداً إلى ميثاقية المناصفة التي يعتمدها «الطائف» أساساً لكل بنوده. فهل يكون احترام المناصفة والميثاقية بأن تكون للمسيحيين رئاسة واحدة هي الجمهورية، في مقابل ثلاث رئاسات لسواهم هي المجلس والشيوخ والحكومة؟
إذا استمر الخلاف المسيحي- الدرزي على رئاسة مجلس الشيوخ، فهو قد يهدّد بخسارة الفرصة التي تبدو مؤاتية لقيام هذا المجلس، بما له من دور حيوي في رسم مستقبل لبنان.
ولأن «القلّة تولِّد النقار»، قد يكون منطقياً أن يتنازل كل من الطرفين، المسيحيين والدروز، للآخر، ويربحا معاً هذا الموقع الاستراتيجي على رأس مجلس الشيوخ. وأفضل صيغة للتنازل هي التداول على الرئاسة ونيابة الرئاسة، ولاية تلو الولاية، مع تشريع صارم يمنع التجديد لرئيس المجلس، لكي يُتاح وصول الرئيس من الطائفة الأخرى.
لم يكن أحد يتوقع أن يؤدي الانتعاش النسبي للدور المسيحي إلى تراجع نسبي للدور الدرزي. لكنّ القوى المسيحية والدرزية «الناضجة» و«المجرّبة» تدرك أنّ صحّة الدروز في لبنان من صحة المسيحيين، والعكس صحيح، وأنّ مراهنة أحد الشريكين على التذاكي أو الاستفادة من الظروف لتحقيق المكاسب من الآخر لا يمكن أن تنتهي إلّا بخسارتهما معاً، عاجلاً أو آجلاً. إنه الجبل بكامل تاريخه ودروسه.