ثمة كلام يدور في كواليس القوات اللبنانية ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، عن أن حملة الـ11 مليار ليرة لن تقف عند هذا الحد. ليس بمعنى استكمال الملف حتى خواتيمه وكشف مسارب الهدر، بل بمعنى شمولها قوى سياسية أخرى. لأن هذه الحملة ظاهرها الفساد، وباطنها «تدجين» بعض القوى، وعلى رأس هؤلاء جنبلاط والقوات اللبنانية.
منذ إقرار قانون النسبية، وجنبلاط يشعر أكثر فأكثر بأنه مستهدف في قلب عرينه، ومع مفاوضات تأليف الحكومة، بات هذا الشعور أمراً واقعاً. وجاءت حادثة الجاهلية وما أعقبها، ومن ثم إحياء ملف العلاقة مع سوريا وتضاعف عوامل التوتر والخلافات الحادة داخل الساحة الدرزية، لتضع أمامه تحديات قد يكون يواجهها لأول مرة في تاريخه السياسي الحديث، في شكل يفوق ما حصل في 7 أيار وما بعده. لأن ما يجري اليوم، إنما يجري بأسلوب سياسي مرن ومن دون صدامات على الأرض، ولأنه يواجه ثلاثة أفرقاء دفعة واحدة: العهد وحزب الله وسوريا، إضافة إلى القوى السياسية المعارضة له داخل الطائفة.
يدرك جنبلاط تماماً حدة الأزمة التي يُقبل عليها، لكنه يبدو أكثر استعداداً لها، فلم يدخل في مواجهة مباشرة مع حزب الله، لا بل كلما اشتدت الأزمة عليه وحوصر أكثر، التجأ إليه، ممهداً الطريق بتعويم وجوه سياسية من فريقه ذات صلة بالحزب قادرة على امتصاص التطويق السياسي، والتمهيد للمرحلة المقبلة التي يمكن أن تقتضي منه تنازلات إضافية. وهو حتى الآن قدم كثيراً من التنازلات على طريق سحب كل عوامل التشنج مع حزب الله والعهد والتيار الوطني الحر، حتى في ملف المهجرين والحقائب الوزارية والتعيينات. وحدها سوريا لا يمكنه أن يقفز فوق معارضته لنظامها. وهو على بقائه على مسافة متوازنة مع القوى الحليفة، بدا واضحاً أنه لم يعد إلى سابق عهده مع الرئيس سعد الحريري. حتى الحملة على السنيورة، عارضها – كما القوات – ببعض الخجل، من دون أن يحولاها اصطفافاً بين قوى 14 آذار و8 آذار بالمعنى الحقيقي للكلمة، أو ما يفهم منه بأنه استعادة لمرحلة 2005، ولا سيما أن الحريري نفسه، رغم كل الحملة المضادة التي خاضها المستقبل وظهور النائبة بهية الحريري إلى جانب السنيورة، لم يقل كلمته بعد، والأرجح أنه لن يقولها، في هذه القضية.
يتقاطع وضع جنبلاط والقوات اللبنانية عند مفصل مستقبلي وانتظار ما ستؤول إليه المرحلة المقبلة. فتهدئة حزب الله الداخلية ورغبته في تصفير المشاكل مع القوى السياسية، (بعد حادثة النائب نواف الموسوي في مجلس النواب) تحتاجان إلى وقت لتظهير الغاية الحقيقية منهما، ما دام الحزب بدأ معركة محاربة الفساد بفتح ملف حساس وفيه إشكالات عدة، وما زال التيار الوطني يصرّ على احتكار إدارة السلطة السياسية والأمنية والقضائية والتعيينات وكل ما يمتّ بصلة إلى التحكم باللعبة الداخلية.
قد لا تكون للقوات ملفات فساد، لكن هذا لا يعني أنه متاح لها العمل السياسي من دون شروط ومن دون وضع أطر لها، من دون أن يعني ذلك أن الحزب سيشنّ معركة مواجهة مفتوحة معها، بل يعني أن هناك حدوداً يفرضها العهد وحلفاؤه على دور القوات وحضورها السياسي، فلا تجنح نحو تحقيق الأكثر. من هنا دارت شكوك لديها حول إمكان استبعاد ما حصل في قرار ملكية المؤسسة اللبنانية للإرسال عن هذا المسار الذي يرسم لها. وهل يمكن النظر إلى ما جرى من سحب حقائب وزارية منها، ومن معارك سياسية يومية بينها وبين التيار الوطني الحر – ولو حرصت القوات على تحييد العهد رغم كونه شريك التيار في كل شاردة وواردة – من دون أن يوضع في الخانة نفسها؟ وليس أدل على ذلك سوى ما حصل في مجلس الوزراء مع انعقاد أولى جلساته بعد تأليف الحكومة، في ما يتعلق بملف النزوح السوري، وكلام رئيس الجمهورية ميشال عون واستعادته مرحلة سابقة في العلاقة بينهما.
محاولة تطويق جنبلاط والقوات سياسياً قد تكون أسهل من الكباش السياسي مع المستقبل، لأن كليهما مع اختلاف موقعيهما وزعامتيهما، لا يملكان حالياً التغطية المذهبية الكاملة من طائفتيهما كما حصل مع السنيورة. فجنبلاط بات يرى نفسه محاصراً بجملة مشكلات درزية داخلية من دون توقف، والقوات لا تمثل في ظل العهد وصعود التيار الوطني ورئيسه، سوى الحزب الثاني عند المسيحيين، ليس بفعل الأصوات والواقع وحسب، بل لأن الشريحة الكبرى تقف عادة إلى جانب السلطة لرعاية مصالحها. والأكيد أنهما سيجدان صعوبة في حشد حلفاء لهما في المعركة، ما عدا تلك العلاقة التاريخية بين الرئيس نبيه بري وجنبلاط، ما دام الحريري نفسه يسعى كل يوم إلى تأكيد انفصاله السياسي عن حلفاء الأمس.
ثمة حلقة أساسية في كل هذه الصورة، هي دخول الأميركيين على الخط، في ضوء تصاعد العقوبات الأميركية على حزب الله وإيران. من الصعب تخطي هذا الواقع، ولو أن من المغامرة الرهان على موقف أميركا لحشد التأييد لحلفائها في لبنان. والعبر السابقة كثيرة.