«إنّنا بحاجة لأحد ما ليأخذنا إلى دوحة جديدة أو إلى جزيرة ما في الخليج الفارسي أو إلى المحيط الهندي لنعالج موضوع الرئاسة وقانون الانتخاب».
قد يكون ما سبق استنتاجًا طبيعيًا وصل إليه معظم اللبنانيين، بغضّ النظر عن انتماءاتهم السياسية والطائفية والاجتماعية، خصوصًا أنّ الطبقة السياسيّة الحاليّة أثبتت عجزها عن إدارة شؤونها بنفسها من دون وصايةٍ خارجيةٍ، بعدما أضاعت ما وصفتها هي بـ «الفرصة التاريخيّة» للوصول إلى اتفاقٍ داخليٍ لانتخاب رئيسٍ للجمهورية وفق قاعدة «صُنِع في لبنان».
ولكن حين يصدر مثل هذا التصريح عن أحد أبرز أركان هذه الطبقة السياسيّة، بل «بيضة قبانها»، أي رئيس «الحزب التقدّمي الاشتراكي» النائب وليد جنبلاط، وفي حضور السفير الأميركي في بيروت دايفيد هيل، وبعد أيامٍ قليلة على انطلاق مؤتمر الحوار الوطني الذي يتصدّر ملف الرئاسة بنود جدول أعماله، يصبح في الأمر إنّ وأكثر، خصوصًا أنّ «البيك» يبدو في هذا التصريح وكأنّه يستجدي «الحلّ الخارجيّ»، أو يتوسّل أيّ دولةٍ في العالم للتدخل لعلّ تدخّلها يفضي إلى إنهاء أزمتي الرئاسة وقانون الانتخاب المستفحلتين.
برأي مصادر سياسية، فإنّ تصريح جنبلاط لم يأتِ من عبث أو من فراغ، بل هو مقصودٌ ومدروسٌ، وقد أراد «البيك» من خلاله إيصال رسائل بكافة الاتجاهات، أولها أنّ الأمور وصلت إلى حائطٍ مسدود في ظلّ تعنّت فريقي الثامن والرابع عشر من آذار ورفضهما الانفتاح على أيّ «حلّ وسط»، رغم إدراكهما بأنّهما سيقرّان في نهاية المطاف بأنّ لا بديل عنه، ولكن يبدو أنّ المطلوب رعاية خارجيّة لمثل هذا الاتفاق، ربما لأنّ هناك أزمة ثقة حقيقية بين الأفرقاء الداخليين، وهو ما عبّر عنه أكثر من طرف جهاراً في الآونة الأخيرة.
أما الرسالة اللافتة الثانية التي حملها كلام جنبلاط، فتقول المصادر أنّها رسالة «سلبية» إزاء الحوار الوطني الذي انطلق يوم الأربعاء الماضي في المجلس النيابي ويفترض أن يُستكمَل يوم الأربعاء المقبل، والذي يريد الكثيرون حصره بملف رئاسة الجمهورية دون غيره من الملفات، بحيث بدا واضحًا أنّ «البيك» لا يعوّل كثيراً على هذا الحوار، رغم أنّه كان من أوائل مباركيه والمتحمّسين له، إلا أنّه على ما يبدو «استسلم» ربما لهول ما رآه في الجلسة الأولى التي تحوّلت لما يشبه «حوار الطرشان»، بحيث اكتفى المشاركون بعرض وجهات نظرهم المعروفة أصلاً من دون إبداء أيّ «مرونة» أو «قابليّة» للتنازل.
من هنا، فإنّ جنبلاط المعروف بحسن قراءته للمتغيّرات السياسية وبواقعيّته في مقاربة مختلف المستجدّات أراد أن يقول لكلّ من يعنيهم الأمر أنّهم ما لم يتفقوا في القريب العاجل، فإنّ الأمور ستفلت من أيديهم إن لم تكن قد فلتت أصلاً، على حدّ ما تقول المصادر، التي تذكّر بأنّ معظم المراقبين قرأوا هذا المنحى الذي ذهبت إليه الأمور منذ فترة طويلة، حيث كانوا واضحين في أنّ البلاد متجهة إما إلى اتفاق دوحة جديد يعالج الأزمة بالمسكّنات من دون أن ينهيها جذريًا، وإما إلى مؤتمرٍ تأسيسي يعالجها جذريًا، ولا بدّ أن يصل إليه اللبنانيّون عاجلاً أم آجلاً، وتضيف: «يبدو أنّ جنبلاط يفضّل الخيار الأول، أو يرى أنّه مرجّحٌ أكثر نظرًا للاعتراض المُطلق على المؤتمر التأسيسي من قبل عددٍ من أفرقاء الداخل».
عمومًا، فإنّ طرح جنبلاط لم ينزل بردًا وسلامًا في صفوف قوى الثامن من آذار، التي توجّست منه من حيث الشكل أولاً، وذلك لعدّة اعتبارات لعلّ أهمّها أنّ اتفاق الدوحة الذي يستشهد به «البيك» ويطالب بمثيلٍ له ليس أصلاً مثالاً يُحتذى، خصوصًا أنّه كان عبارة عن تسوية مذلّة يعيش اللبنانيون اليوم تداعياتها التي لا يخفى على أحد أنّها كانت كارثية على الوطن ككلّ، مشيرة إلى أنّ عهد الرئيس السابق ميشال سليمان، الذي تمّ «تعيينه» رئيسًا بموجب هذا الاتفاق، والذي يكاد يكون الأسوأ على الإطلاق، خير دليلٍ على ذلك، من دون أن ننسى قانون الانتخاب «المفصّل على قياس البعض» الذي أفرزه هذا الاتفاق.
وفيما تشدّد المصادر على أنّ لا عودة لتسوية الدوحة بأيّ شكلٍ من الأشكال، تشير إلى ملاحظةٍ ثانية تجعلها تتوجّس من طرح جنبلاط، وذلك من حيث الظروف الزمانيّة والمكانيّة، وبالأخصّ من حيث صدور تصريح «البيك» في حضرة السفير الأميركي في لبنان الذي «كرّمه» جنبلاط في كلمته نفسها، وصولاً لحدّ إعطائه «الفضل» في تشجيع اللبنانيين على الحوار وغيره، وتعتبر المصادر أنّ هذه «الإشادات المبالَغ بها» قد لا تكون في مكانها، متسائلة عمّا إذا كان «البيك» يدعو هيل بشكلٍ غير مباشر للضغط على بلاده لفعل شيءٍ ما، داعية للاتعاظ من تجارب البلاد التي دخلت فيها الولايات المتحدة الأميركية، وفي الغالب بطلبٍ من هذه البلدان، فتحوّلت إلى جحيمٍ بكلّ ما للكلمة من معنى.
في المقابل، لا تقف مصادر محسوبة على قوى الرابع عشر من آذار عند هذه التفاصيل الشكليّة، وتشير إلى أنّ «التسوية» آتية في النهاية لا محالة، سواء كانت على شاكلة اتفاق الدوحة أو غيره، إلا أنّها ترى أنّ الفرصة لا تزال مُتاحة أمام اللبنانيين لصياغة هذا الاتفاق من تلقاء أنفسهم، ولكنّ ذلك يتطلب إقرارًا من كلّ الأفرقاء بأنّ التوافق ممرّ إلزامي، فلا «حزب الله» قادرٌ على الإتيان برئيس تكتل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون رئيسًا ولا «14 آذار» قادرة على الاتيان برئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع.
وتلفت المصادر في هذا السياق إلى كلامٍ قاله رئيس حزب «الكتائب» النائب سامي الجميل مفاده أنّه لا يمكن أن يخرب البلد من أجل وصول الرئيس أمين الجميل إلى الرئاسة، وهي تصف هذا الموقف بالوطني والمسؤول، وتدعو جميع الأفرقاء المسيحيين الآخرين إلى التمثّل به، لأنّ ذلك سيكون مفتاح الحلّ، وعندها سيصبح الحوار فيما بينهم منتجاً ومثمراً للوصول إلى رئيسٍ للجمهورية، مؤكدة أنّ الرئيس الذي سيوافق عليه الأقطاب الموارنة سيكون بالضرورة قوياً كونه يستند إلى الحجم التمثيلي لهم جميعاً من دون استثناء.
قد يكون جنبلاط بحديثه عن «دوحة جديدة» ضرب على «الوتر الحساس» لبعض القوى السياسية التي لا ترى في اتفاق الدوحة سوى «نذير شؤم»، ولكنّ الحقّ يُقال، أنّ حالة الجمود الحاليّة لا يمكن أن تستمرّ إلى ما شاء الله، وأنّ هناك جهدًا ما يجب أن يُبذَل، وإلا فإنّ تسوية الدوحة ستتكرّر، ولو تغيّر اسمها!