حركة المختارة باتجاه سفراء الدول الغربية تُظهِّر حجم الحرب المفتوحة على دورها
الأجواء في البلاد غير مطمئنة في ظل انسداد الأفق السياسي على خلفية تداعيات حادثة قبرشمون، واصرار تحالف باسيل – أرسلان – «حزب الله» على التمسك برواية الكمين للوزير صالح الغريب والتمسك بإحالة الحادثة على المجلس العدلي وربط انعقاد مجلس الوزراء بهذا الشرط، في محاولة «خبيثة» لتجاوز جديد لـ«اتفاق الطائف» عبر تكريس مزيد من الأعراف والممارسات التي تصب في ضرب واضعاف صلاحيات رئيس الحكومة وقضمها.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل ذهب هذا التحالف إلى رفع مستوى التصعيد بنقل عدسة الاستهداف من الغريب إلى رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، مع اقتراحات حلول بتحويل الحادثة إلى القضاء العسكري في «سيناريو ركيك» انعكس سلباً في نتائجه جراء انكشاف حجم التدخلات والضغوطات الفاضحة والفظة عليه للتأثير على قراراته في خدمة اهداف سياسية فرضت التطورات المتتالية من حدة الانتكاسة التي أصابت هذا الفريق، ولا سيما رئيس التيار التي ضربت اندفاعته في معركة تكريسه زعيماً مسيحياً أولاً وربما أوحداً ما يقطع الطريق على أي محاولات للقفز فوق هذا الواقع في المعركة الرئاسية المقبلة.
وزاد من تفاقم المشهد الداخلي انزلاق رئيس الجمهورية ليتحول طرفاً بدل أن يرتقي إلى دور الحَكَم الذي أناطه به «اتفاق الطائف» وأضحى دستور البلاد، الذي لاقى الهجوم العنيف لـ«حزب الله» على زعيم المختارة قاده شخصياً الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله، في ما اعُتبر رسائل متعددة الاتجاهات لها بُعدها الداخلي الهادف إلى تطويق جنبلاط كجزء من تعبيد الطريق أمام سقوط لبنان الكلي في فلك إيران وانخراطه في مشروع تحالف الأقليات وتحوله ورقة قوية بيدها قادرة على استثمارها وتجييرها وصرفها في المواجهة الحاسمة مع واشنطن.
في المحصلة، وعلى الرغم من الشعور أن ثمة قراراً من العهد وحزب الله وحلفائهما بخفض وتيرة التصعيد والتراجع خطوة إلى الوراء، فإن ذلك يأتي وفق قراءة المتابعين في إطار تكتيكي مؤقت نتيجة احتواء الخسائر الناجمة عن الحسابات الخاطئة لمعركة «كسر جنبلاط» والذي نجح في حصار محاصريه، من خلال جملة عوامل، أولها صمود البيئة الدرزية التي شعرت بالخطر فتكتلت إلى جانبه، وثانيها، حال الالتفاف الشعبي حوله من البيئة السنية وجزء من البيئة المسيحية، وثالثها، التضامن السياسي الذي حظي به من رئيس الحكومة سعد الحريري وقيادات سنية، ومن قيادات مسيحية ولا سيما حزب القوات والكتائب، فضلا عن الدور المحوري الداعم له من رئيس مجلس النواب نبيه بري. هذا على مستوى الداخل، أما على المستوى الخارج، فقد استطاع جنبلاط من خلال حركته الدبلوماسية في اتجاه سفراء الدول الغربية تظهير حجم «الحرب المفتوحة» عليه عارضاً لمحطاتها بدءاً من قانون الانتخاب والتحريض الطائفي لضرب المصالحة، وتأليف الحكومة مروراً بافتعال قلاقل أمنية في الجبل من الشويفات إلى الجاهلية وصولا إلى السويداء في جبل الدروز، بما يجعله في موقع الدفاع عن النفس في معركة يراها معركة حياة أو موت سياسي ومعركة وجودية بامتياز.
وما هو مقلق أن القوى السياسية والتي هي في حقيقة الأمر تشكل السلطة الحاكمة تُظهر الكثير من القصور وعدم والحكمة في التعاطي مع المرحلة الدقيقة التي يمر بها لبنان والتحديات التي تواجهه اقتصادياً ومالياً، ما يطرح علامات استفهام عما إذا كان أركان الحكم وفي مقدمهم رئيس الجمهورية مدرك لحجم الاهتراء الذي يصيب عهده الذي لا يزال في منتصف الولاية، وما إذا كانت القيادات السياسية تستشعر بأن الهيكل بات على قاب قوسين أو أدنى من السقوط فوق رؤوس الجميع، وبالتالي عاجزون عن ابداء قدر من الجدية والمسؤولية في مقاربة المسائل منعاً لانهيار البلاد، أم أن ثمة من يرى أن الفرصة سانحة للإسهام في ضرب ما تبقى من مقومات الدولة على مختلف المستويات، بحيث يفرض توالد أزمات الحكم وضع الجميع أمام استحقاق البحث عن حلول دائمة من خلال تعديل «اتفاق الطائف» والدستور، في وقت يمكن منه الإفادة من الاختلال الحاصل في موازين القوى الداخلية منذ التسوية الرئاسية ونتائج الانتخابات النيابية.
على أن القلق الحقيقي ينبع من المخاوف الأمنية، إذ على الرغم من الجهود التي تقوم بها الأجهزة الأمنية من الجيش والمخابرات وقوى الأمن، والتي تستنفر الكثير من طاقاتها، فإن إمكانية الدخول على «خط الخربطة الأمنية» ليس مستبعداً لا سيما أن «الأرض تبدو رخوة» لجهة القدرة على اختراقها من جهة، وافتعال أحداث وإشكالات قد تبدأ فردية وتتطور، فضلا عن أن الأجواء المحقونة من شأنها أن تسهم في اشعال الوضع، من دون التقليل من وجود ضرورة ما إلى تحويل لبنان «صندوق بريد» برسائل باردة وحامية في آن.
وإذا كان البعض لم يقرأ البيان الذي صدر عن السفارة الأميركية في بيروت إلا من خانة التدخل السافر في الشؤون اللبنانية، فإن العقلانية السياسية تستدعى التوقف ملياً عند معاني البيان الذي لم يصدر إلا بعدما استشعر المسؤولون الأميركيون أن السلطات اللبنانية قد تجاوزت الخطوط الحمر في محاولة كسر المعادلات السياسة والزعامات السياسية التي من شأن استهدافها أن تحدث تغييرات كبرى في البلاد، وهو الأمر الذي استدعى إيصال رسالة واضحة بأن لبنان ليس متروكاً أميركياً، وأن أي محاولة من هذا القبيل سوف لن تبقى من دون رد فعل. كما أن البيان أراد بوضوح أن يحذر من ضرب مصداقية المؤسسات التي يفترض أن تشكل صمام الأمان لاستعادة الدولة الثقة الداخلية والخارجية وفي مقدمها القضاء، وهي مسألة ستحدث ارتدادات لدى المؤسسات والدول المانحة التي تحتاج الى توفّر مناخات ثقة في لبنان للاستثمار، ولا يمكنها بالتالي التغاضي عن وجود قضاء مسيس ومتحّيز ومجيّر لغايات سياسية.