هذه المرة قد لا يُعثر بالسهولة المتوقعة على إطفائي يجنّد نفسه لإجراء مصالحة بين وليد جنبلاط وحزب الله. الاثنان في قطيعة تشبه التي مرّا فيها قبلاً ما خلا سبب افتتاحها: معمل ترابة لا أكثر ولا أقل
إبان الخوض في مفاوضات الخط الأزرق بين لبنان والأمم المتحدة عام 2000، تلقى القاضي جوزف شاوول، وزير العدل في حكومة الرئيس سليم الحص، مكالمة هاتفية من النائب السابق عثمان الدنا يخبره، أيام كان قاضياً في صيدا عام 1948 مكلفاً في الوقت نفسه في العطلة القضائية مهمة قاضي تحقيق، بواقعة من شأنها أن تضيف دليلاً جديداً إلى لبنانية مزارع شبعا التي اتسع الجدل من حولها آنذاك. فحوى الواقعة جريمة ارتكبها رعاة لبنانيون في شبعا، سبّبت مقتل كاهن أرثوذكسي يُدعى حبيب خشة في 16 تموز 1948. بعدما عرّف عن نفسه بصفته هذه هاجموه، إذ اتهموه بأنه يهودي، وضربوه بالحجارة حتى الموت. يومذاك، تولى الدنا التحقيق في الجريمة، قبل أن تصدر حكومة الرئيس رياض الصلح، في 20 تموز، مرسوماً قضى بإحالتها على المجلس العدلي، وقّعه وزير العدل أحمد الحسيني. عُزيت الإحالة على المحكمة الجزائية الأعلى إلى أن الحادثة كادت تؤدي إلى «اقتتال طائفي».
في حصيلة المحاكمة، اصدر المجلس العدلي في 28 آب أحكاماً طاولت عدداً من الأشخاص في المنطقة “بجرم سلب وقتل بداعي الطائفية وإخفاء الجريمة»، من بينها الإعدام. بحث شاوول في محفوظات وزارته عن خلاصة الحكم، إلى أن عثر عليه، فتولت حكومة الحص ضمّه إلى حججها في المفاوضات مع الأمم المتحدة كي تؤكد لبنانية مزارع شبعا: لو لم تكن كذلك، لما أمكن القضاء اللبناني التحقيق في جريمة ارتُكبت في المنطقة نفسها وأصدر حكمه. من دون سيادة الدولة على أراضيها، لا يسع السلطات القضائية التحقيق وممارسة صلاحياتها وإصدارها أحكامها على هذه الأراضي.
يثير الكلام المستجد عن مزارع شبعا تساؤلاً عن توقيت استرجاع جدل في ملف افترض أفرقاء كثيرون أنه نائم الآن في الأدراج. ذلك مغزى ما يقال عن الخلاف الجديد بين النائب السابق وليد جنبلاط وحزب الله. منذ اتفاق الدوحة على الأقل، لم يُؤتَ على ذكر المزارع، وحلّ محله لبعض الوقت سلاح حزب الله والحوار من حوله، ثم أتت مشاركة الحزب في الحرب السورية كي تتقدّم في السجال بين الحزب وحلفائه من جهة، وتيار المستقبل وحلفائه من جهة أخرى. منذ انتخاب الرئيس ميشال عون خفّ تماماً الخوض في الملفات الأربعة تلك دفعة واحدة، إلى أن أعاد جنبلاط إحياء البند الأول في الاشتباك، في وقت استمر فيه تيار المستقبل بتجاهله، بموازاة تجاهل حزب الله ما يدور في أروقة المحكمة الدولية واتهاماتها. تفَاهَمَ الفريقان على غضّ النظر عن بنود شتى لخلافاتهما العميقة بدعوى المحافظة على الاستقرار، وإدارتهما معاً ماكينة الحكم. بيد أن أياً منهما لم يتخلَّ عن حملاته العنيفة على المرجعية الإقليمية للآخر.
مذ تحدّث جنبلاط إلى محطة «روسيا اليوم» (25 نيسان) عن مزارع شبعا، نافياً لبنانيتها، نشأ جدل جديد من حولها لم يكن تيار المستقبل في صلبه، ولا بدا معنياً بما سمع. اقتصر السجال على جنبلاط وحزب الله، وكلاهما قارب انفجار الموقف على نحو مختلف، متناقض إلى حد بعيد.
عند الزعيم الدرزي يرتبط الخلاف المستجد بذريعة محدودة، في رأيه مفتعلة، هي معمل الترابة في عين دارة. ما سمعه بعض القريبين منه قبل سفره إلى باريس أنّ المعمل لا يستحق تقويض علاقته بحزب الله، من غير أن يبرئه من الحملات المتلاحقة عليه من حلفائه، كما لو أن المقصود محاصرته. لم يتردد في القول إن تطويقه «تمّ بأمر عمليات من علي المملوك بالذات». بعض ما قاله أن ليس لحزب الله الاعتقاد بأن «كرامته مُسّت» لمجرد رفضه معملاً للترابة في الجبل. سخطه على الرئيس سعد الحريري لا يُحد، ويغضبه استسلامه «على البطن حتى» للوزير جبران باسيل. في المقابل، يُراد دفعه دفعاً إلى التصالح مع النائب طلال أرسلان من دون أن يرغب، ويتحمّل عبء ضغوط رئيس الجمهورية عليه للوصول إلى هذا الهدف. المرحلة التالية لذلك كله أوصلته إلى انقطاع التواصل بينه وحزب الله بعد قرار وزيره وائل أبو فاعور منع إقامة معمل عين دارة، متجاوزاً قرار سلفه حسين الحاج حسن بالإذن بإنشاء المعمل. ذروة انقطاع التواصل، منع نواب حزب الله من الاتصال بنوابه بعدما أخطره النائب فيصل الصايغ أنه لم يتمكن من الاجتماع بالنائب أمين شري إلا في مكتب موصد الأبواب في البرلمان، لئلا يبصرهما أحد. ثلاث مرات طلب أبو فاعور من محاوريه في الحزب الاجتماع بهم للبحث في مصير المعمل، مستبقاً قراره. في المرات الثلاث استمهلوه أكثر من أسبوعين، من غير أن يلقى جواباً، إلى أن نُقل إلى جنبلاط أنّ الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله هو «الذي لا يأذن». بلغ مسامعه أيضاً أن قرار الحاج حسن بإقامة المعمل «أكبر من قرار وزير»، إلى حد الاعتقاد أن القرار المضاد «أساء» إلى نصر الله شخصياً.
استعادة السجال على مزارع شبعا توقيت سياسي أكثر منه حجة قانونية
يخلص سامعو جنبلاط إلى الاستنتاج، بحسب ما أوحى، أنه طرق الباب الأكثر إقلاقاً لحزب الله في هذه المرحلة، وهو العودة إلى التشكيك مجدداً في لبنانية مزارع شبعا كي ينزع عن الحزب أي حجة لتمسكه بسلاحه أولاً، ولتبديد نبرته العالية في وجه التهويل الإسرائيلي في الأسابيع الأخيرة بحرب وشيكة على لبنان. كان ينقص أن يضيف جنبلاط إلى «روسيا اليوم» عبارة أن الأسد «أكبر كاذب» كي يضع بنفسه أقفالاً على الأبواب الموصدة.
على طرف نقيض منه، ينظر حزب الله إلى توقيت الموقف الأخير – لا إلى مضمونه وهو ما أعاد تأكيد نصر الله مساء الخميس – على أنه جزء لا يتجزأ من حملة غربية تستهدف حزب الله اعتاد جنبلاط أن يكون جزءاً لا يتجزأ منها. البعض الوثيق الصلة بالحزب يتحدث عن فكرتين: أولى أن المواقف الأخيرة لجنبلاط تستعيد مناخات عشية عام 2008 حينما بدا حزب الله محاصراً في الداخل والخارج وهو فحوى العقوبات الأميركية، وثانية أن لا إطفائي جاهزاً في الوقت الحاضر لإعادة ربط ما انقطع بين فريقين اعتادا منذ أحداث 7 أيار 2008 أن يرسيا علاقة ملتبسة غامضة، بل غير مفهومة، لا يظهر منها إلى السطح سوى الرغبة في عدم الاشتباك، وكلاهما لم ينسَ الكلفة التي تبادلاها في الشوف وعاليه في عز النزاع المسلح في 7 أيار. بعد اندلاع الحرب السورية أضحى تناقضهما أكثر وضوحاً. ثم أتت تسوية انتخاب عون، برعاية مباشرة من حزب الله، كي يفقد جنبلاط حليفه الحريري من غير أن يجد حليفاً بديلاً منه كسمير جعجع. أضف انتقال النزاع بينه وبين رئيس الجمهورية، وتالياً بينه وبين صهر الرئيس وزير الخارجية إلى أرض الشوف بالذات منذ انتخابات 2018.
استكمالاً لعلاقة مضطربة برئيس الجمهورية وحزب الله، للمرة الأولى يجد جنبلاط نفسه أمام وقائع لم يختبرها منذ عباءة والده عام 1977: الأول في طائفته وليس الوحيد. بلا ظهير إقليمي قوي كسوريا سبق أن أهدته حرب الجبل عام 1983، ومكاسب الحكم والسلطة في عقد التسعينيات. لا حليف سنّياً له يشبه الرئيس رفيق الحريري إن لم يقل إنه يحسب نجله الرئيس الحالي للحكومة في المقلب الآخر منه.