أوردت صحيفة «نيويورك تايمز» في 30 كانون الثاني الماضي مقالاً أشارت فيه إلى وفاة الجاسوس الروسي ستيغ برغلينغ عن 77 عاماً بعد صراع مع مرض الباركنسون.
قد يبدو الخبر عادياً لكنه من دون شك أثار فضول الكثير من اللبنانيين بعدما كشف رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» النائب وليد جنبلاط، أنه استضاف هذا الجاسوس الشهير لمدة أربع سنوات في المختارة بناء على طلب من نائب مدير الاستخبارات العسكرية السوفياتية آنذاك الجنرال فلاديمير اسماعيلوف.
من هو ستيغ برغلينغ؟
كان أحد موظفي جهاز الأمن السويدي وعمل في قسم المراقبة والرصد. وكان برغلينغ ضابطاً في الاحتياط وعمل لفترة قصيرة في وزارة الدفاع السويدية حيث تمكّن من سرقة بعض الملفات السرية المتعلقّة بالمنشآت العسكرية السويدية. وباع هذه الملفات إلى جهاز الاستخبارات العسكرية التابع للاتحاد السوفياتي آنذاك، خلال وجوده في مهمة تابعة للأمم المتحدة في لبنان في العام 1973. وبعد عودته إلى السويد، تابع مهمته في التجسس لصالح الاتحاد السوفياتي وسلّم معلومات حساسة جداً تتعلق بتركيبة جهاز الأمن السويدي وعمله.
وسرعان ما بدأت الشكوك تسري داخل أروقة جهاز الأمن السويدي حول وجود عمليات تسريب معلومات مهمة، وتوجهت أصابع الشكوك كلها صوب برغلينغ من دون أن تكون هناك أدلة كافية لتوريطه. غير أن الأخير قدّم مجدّداً طلباً للخدمة في الأمم المتحدة هرباً من الملاحقة، غير أنه تم اعتقاله في تل أبيب في 20 آذار 1979 بتهمة التجسس لصالح الاتحاد السوفياتي.
وفي 9 كانون الأول 1979، أدين في السويد بالتجسس لصالح دولة أجنبية وحكم عليه بالسجن المؤبد بتهمة الخيانة العظمى.
وخلال فترة محكوميته في السجن، غيّر برغلينغ اسمه إلى «ستيغ سيفانت يوجين ساندبرغ». وفي 6 تشرين الأول 1987، وأثناء وجوده في زيارة عائلية في المعهد الإصلاحي في نوركوبينغ في السويد برفقة زوجته إليزابيت، تمكّن من الفرار. وقد انتقل برغلينغ وزوجته من مدينة رينكيبي حيث كانت تقيم، عبر آلاند إلى أن وصلا إلى هلسنكي في فنلندا حيث بادر إلى الاتصال بسفارة الاتحاد السوفياتي وتمكن بمساعدتها من الفرار إلى الاتحاد السوفياتي.
وأقام برغلينغ في موسكو لفترة متخذاً اسم إيفار شتراوس قبل أن ينتقل مع زوجته مجدّداً إلى بلغاريا. غير أنه في العام 1990، في مرحلة انهيار الاتحاد السوفياتي، انتقل برغلينغ وزوجته إلى لبنان حيث أقاما بضيافة رئيس الحزب «التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، حليف السوفيات.
وفي آب 1994، غادر الزوجان لبنان طوعاً إلى السويد حيث أمضى برغلينغ ثلاث سنوات في السجن حتى إطلاق سراحه في تموز 1997.
وفي صيف العام 2006، انضم برغلينغ إلى حزب اليسار السويدي، لكنه استقال منه في أيلول من العام نفسه.
وتوفي برغلينغ بعد صراع مع داء الباركنسون في كانون الثاني 2015.
وفي ما يلي ما كتبه رئيس «الحزب الاشتراكي» النائب وليد جنبلاط تعليقاً على خبر الصحيفة الأميركية:
«سيكتب أحدهم سيرة حياتي ذات يوم.
قد أكون موجوداً حينها لأزوّده بالمعلومات أو يمكن أن أكون قد تقمّصت في الصين بحسب العقيدة الدرزية، وفي هذه الحالة، لا أدري إذا كان من سيكتب السيرة ضليعاً بلغة الماندرين.
لكن لنعد إلى موضوع الجاسوس المدعو ستيغ برغلينغ الذي تورّطت، للأسف، في إخفائه لأربع سنوات في المختارة في لبنان بين عامَي 1990 و1994.
كيف حصل ذلك؟
عام 1990، قدِم نائب مدير الاستخبارات العسكرية السوفياتية، الجنرال فلاديمير اسماعيلوف، إلى المختارة في زيارة ودّية. كان فارع القامة، شعره أحمر، شارباه كبيرين، وكان برفقته مسؤول آخر، على الأرجح أنه أحد معاونيه، وصديقٌ مشترك.
مع السوفيات والروس، يبدأ الكلام الجدّي بعد تناول خمس أو ست جرعات من الفودكا، ورفع الأنخاب مرات عدة في صحة الصداقة اللبنانية – السوفياتية، والكفاح المشترك بين الحزب التقدّمي الاشتراكي والحزب الشيوعي السوفياتي.
ثم قال لي الجنرال اسماعيلوف: رفيق وليد، أنت صديق كبير للاتحاد السوفياتي، ولن ننسى أبداً موقفك الداعم للشعب السوفياتي و«نضالنا المشترك ضد الإمبريالية».
أعتقد أن بعضكم يعرف هذه المصطلحات.
كي أختصر سرد الأحداث، سألني الجنرال اسماعيلوف إذا كان بإمكاني أن أقوم بإيواء أحدهم في المختارة. كيف كان لي أن أرفض؟ قدّم لي السوفيات مئات المنح الدراسية، ودرّبوا الآلاف من عناصر ميليشيا الحزب التقدمي الاشتراكي في قواعدهم، وزوّدونا مجاناً بأسلحة وذخائر تصل قيمتها إلى 500 مليون دولار بين عام 1979 وأواخر الثمانينات.
وافقت من دون تردّد، وأكملنا تناول طعام الغداء الذي امتدّ لوقت طويل. أتساءل كم زجاجة فودكا استهلكنا في تلك الجلسة، بالطبع في سبيل القضية المشتركة، محاربة «الإمبريالية» ومن أجل ترسيخ دعائم «الاشتراكية».
بعد أسبوعَين، جاء رجل في أواخر العقد الخامس من عمره مع زوجته، وقد جهّزنا لهما الطابق العلوي في منزل نعمة طعمة، النائب الحالي في البرلمان والصديق الكبير لآل جنبلاط، كي يقيما فيه.
كان آل طعمة ولا يزالون معروفين بكرم الضيافة.
لكن من كان ذلك الرجل وزوجته؟ ليس سوى ستيغ برغلينغ وزوجته إليزابيث ساندبرغ.
وقد مكث أربع سنوات في ضيافتنا يشاركنا طعام الغداء والعشاء وفي مناسبات مختلفة.
يمكنني أن أسترسل في رواية هذه القصة لكن قد تطول كثيراً، لذلك سأكتفي بتعليقَين في الختام.
أولاً، بدا لي الأمر غريباً إلى حد كبير أن يطلب مني السوفيات أن أخبّئ أحد جواسيسهم الكثر، ولاحقاً تأكّدت شكوكي بأن الأمبراطورية السوفياتية ليست على ما يرام، فقد انهارت بعد عامٍ واحد.
ثانياً، هرب السيد «آبي» بحسب التسمية التي أطلقناها على ستيغ برغلينغ، من لبنان عام 1994 عائداً إلى السويد، وذلك خلال وجودي في موسكو في عهد (الرئيس الراحل بوريس) يلتسين، وقد سُجِن من جديدa، وبالطبع كشف للصحافة السويدية عن المكان الذي كان يختبئ فيه.
أما أنا فقد واجهت حرجاً شديداً مع أصدقائي السويديين من «الحزب الديموقراطي الاشتراكي» الذين كانت تربطني بهم صلات وثيقة، وبفضل هذه العلاقات، سنحت لي الفرصة أكثر من مرة للقاء شخصية عظيمة وأحد كبار القادة في القرن العشرين، الراحل أولوف بالمه.
لقد ألحق هذا الجاسوس الكثير من الضرر بالسويد وبي. أعتذر للشعب السويدي ولأصدقائي الديمواقرطيين الاشتراكيين.
فأنا لم أستطع أن أرفض طلب الجنرال فلاديمير اسماعيلوف».