“بداية تهدئة إعلامية أما على مستوى التباينات السياسية فلم يتغيّر شيء”
يبرع رئيس “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط دائماً في مقاربة الملفات اللبنانية بحنكة ودراية كبيرتين يتقن فيها قواعد اللعبة السياسية بأدق تفاصيلها، ويظهر مقدرة على استشراف التحديات والصعاب التى يعيشها البلد فتبدو خطواته مفاجئة للحلفاء قبل الخصوم. لا توجد عنده عداوات دائمة وليس عنده تحالفات دائمة، بل عنده براغماتية ومرونة تشبهان صلابة مواقفه. فليس زيارته بالامس الى قصر بعبدا ولقاؤه رئيس الجمهورية الا خطوة من خطواته التي يتقن سيرها. فهو يدرك جيداً كيفية المشي على حافة الهاوية والارتداد الى قواعده من دون خسائر تحسب عليه.
أهداف عدة أصابتها زيارة رئيس “الاشتراكي” لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون. مجدداً يتقصّد زعيم الجبل التمايز فينجح. الرجل يعرف أن زيارته حمّالة أوجه وتحليلات. من بعبدا أعلن أن “لا علاقة لي بأي أحلاف ثنائية او ثلاثية. هذه حساباتي مبنية على حساباتي الخاصة وعلى ضرورة تحسين العلاقة وتنظيم الخلاف اذا وجد مع التيار الوطني الحر. ومع كل احترامي للرئيس الحريري او للدكتور سمير جعجع، لا علاقة لي”.
ومن بعبدا التي أمّن له زيارتها “فاعل خير”، أعلن جنبلاط انه لا يسعى الى تغيير الحكومة وأن هدفه “تنظيم العلاقة مع التيار الوطني الحر”. كان جنبلاط صريحاً أمام مضيفه فقال ما اعلنه جهارة من أن “لا علاقة لي بالحريري او بجعجع ولا حلف يترتب بيننا”. نجح فاعل الخير في مسعاه لكن السؤال هل هو فاعل خير محلي صرف أم غربي؟ وهل تلقف جنبلاط الاشارات بتغيير المرحلة لصالح العهد والحكومة فقصد عون مهادناً؟
قبل خمسة عشر يوماً تقريباً وبعد كلامه القاسي تجاه رئيس الحكومة زار وفد حكومي مؤلف من وزيرين أحدهما نائب رئيس الحكومة زينة عكر جنبلاط، للوقوف على رأيه في ما هو مطلوب من الحكومة فأجابهم جنبلاط: “ما بدي شي، سبق وأخذت قراراً بالمعارضة. وانتم تسألونني رأيي وتعملون عكسه. كفوني شركم وانا كافي العالم شري”. وتابع: “البلد راح من أيدينا والناس راح تنفجر بوجهكم والامر بدو شغل والشغل لا يكون بالهوبرة وتعطيل التشكيلات القضائية والتعيينات المالية”. قدّم لهم جردة مسهبة حول ما قامت به الحكومة. أصغى الوفد لحديث زعيم الجبل ليكون السؤال المتكرر دائماً ما المطلوب. واذا كان ثمة أمر ما يزعجه ليتم العمل على حله، ليجيبهم: “مش مطلوب شي والبلد ما عاد يحمل شي”.
خرج الوفد بإتفاق على استمرار التواصل. وقبل أيام قليلة حضر لزيارة جنبلاط رئيس غرفة الأوضاع في القصر الجمهوري العميد المتقاعد ولسون نجيم، يفاتحه بموضوع التوتر في الجبل والشوف ووجوب “معالجة الحساسيات الموجودة، وان الرئيس عون لا يقبل بمثل اجواء الشحن القائمة ويجب ضبط الخطاب وانعكاسه على الشارع من خلال تواصل مباشر وليس من خلال الاعلام”.
فأجابه جنبلاط: “لست أنا من بدأ التراشق الاعلامي ولا أنا من فتح اذاعة وصار يبث فيديوات وأحاديث تحريضية. ضبوا انفعالاتكم والمصالحة إنجاز وطني نحرص عليه ونحميه ودفعنا من رصيدنا لأجله”. اما في “الهدف السياسي” تابع جنبلاط: “ما فيّي قول عن الخطأ صح”.
فسأله الضيف وهل من مشكلة في عقد لقاء فأجاب جنبلاط: “لا مانع وأنا ضد القطيعة”، فعاود سؤاله هل تريد اللقاء سرياً ليجيبه: “ما عندي شي بالسر واذا بدنا نستفيد من النتائج بتخفيف التوتر فيجب ان يكون اللقاء معلناً”. فتم تحديد الموعد الذي صودف قبيل موعد انعقاد لقاء عون مع رؤساء الكتل النيابية.
كان اللقاء حاجة ملحة مع ارتفاع منسوب التوتر بين “التيار الوطني” و”الاشتراكي” في الجبل على خلفية إذاعة الشوف التابعة لـ”التيار الوطني” والتي تبث برامج تهاجم من خلالها الحزب “الاشتركي” وزعيمه، ما استدعى تدخل المطرانين مارون عمار وايلي حداد ومعهما فريد البستاني الذين حاولوا تطويق الموضوع. ويقال هنا ان الآراء تفاوتت داخل “التيار” بين مؤيد للتهدئة ومعارض لها، غير ان المطرانين حين زارا بعبدا فاتحا عون بالموضوع فكان جوابه: “انا مش مقاطع”.
حضر جنبلاط ليقول لا علاقة لي بمواقف الآخرين وحساباتهم وهناك مشكلة في الجبل هي حادثة البساتين وما نتج عنها ويجب حلها. سئل عما اذا كانت زيارته منسقة مع الرئيس سعد الحريري ومعراب، فأجاب: “جاءت بمبادرة من قبل ساعي خير، ولا علاقة لي بأي أحلاف ثنائية او ثلاثية. هذه حساباتي مبنية على حساباتي الخاصة وعلى ضرورة تحسين العلاقة وتنظيم الخلاف اذا وجد مع التيار الوطني الحر. ومع كل احترامي للرئيس الحريري او للدكتور سمير جعجع، لا علاقة لي”. وعلم في هذا الاطار ان جنبلاط كلف موفدين من قبله ابلاغ جعجع والحريري بالزيارة، علماً ان الموضوع يتعلق بالجبل ولا حاجة للتشاور بشأنه مع الآخرين. غير ان هدف الزيارة بالنسبة لجنبلاط وفق مصادره “لا ان يسابق جعجع ولا الحريري ولا له حسابات خاصة، وان جلّ هدف اللقاء وما قاله جنبلاط للرئيس عون نختلف مع حزب الله على امور عدة لكن لا توتر بيننا، فلمَ لا يكون الموضوع ذاته مع التيار الوطني؟”.
وفي حين حصر البعض زيارة جنبلاط بتعيين قائد للشرطة القضائية وغيرها من تعيينات اخرى منتظرة، متسائلاً هل ستؤدي الزيارة غرضها بتعطيل التعيين، جزمت المصادر ان “موضوع التعيينات لم يكن هو الاساس وان اللقاء شكل بداية مسار تهدئة على المستوى الاعلامي، اما على مستوى التباينات السياسية فلم يتغير شيء”. وعلم ان المساعي ستلاقي جنبلاط الى منتصف الطريق بأن يتم الوقوف على خاطره في أمور عدة تتعلق بالتعيينات في المرحلة المقبلة.
ويأتي في نتائج الزيارة انها حققت شرعية ما للحكومة، وأثبتت عدم وجود نية لجنبلاط بالتموضع مجدداً ضمن جبهات، وكأن جهة ما نصحته أن المرحلة المقبلة ستكون مرحلة تقارب مع الرئيس عون ودعم للحكومة وخطتها الاقتصادية، خصوصاً وانها حصلت قبل 48 ساعة من لقاء عون مع رؤساء الكتل النيابية. وتوقعت مصادر موثوق بها ان تحمل الساعات المقبلة مزيداً من المؤشرات العملية التي تدعم توجهات العهد، وتنعكس حكماً ايجاباً على الحكومة لجهة تعزيز شرعيتها السياسية.