يعود وليد جنبلاط الآن يشبه والده. عندما كان كمال جنبلاط يختار الموالاة، بتفاوت في الحقبة الشهابية، يتراجع دوره ويصبح زعيماً عادياً كسواه. حينما يذهب إلى المعارضة، كما مع الرئيس سليمان فرنجية، تنبري «العقدة الجنبلاطية» ويرجع الاستثناء
حينما غادر وليد جنبلاط قوى 14 آذار بعد انتخابات 2009 إلى مكان وسطي بينها وبين قوى 8 آذار، أثمر مصالحة مع سوريا. أقام بين حافتي التكتلين يأخذ في الاعتبار مراعاة حلفائه السابقين ومجاراة أولئك الجدد. عندما مال عام 2011 إلى قوى 8 آذار لتكليف الرئيس نجيب ميقاتي تأليف الحكومة ضد الرئيس سعد الحريري، كان صاحب الدور المحوري في انتقال الغالبية النيابية من فريق إلى آخر. مذ اتخذ بعد ذلك موقعاً وسطاً، وصار يعدّ نفسه وسطياً، بدا كأنه أضحى على هامش اللعبة، لا يسعه إحداث أي انقلاب فيها كما اعتاد، وإن تردّد حينذاك أنه في صدد التقاعد والتحضير لانتقال خلافة الزعامة إلى نجله تيمور. صوّت مع انتخاب الرئيس ميشال عون، وكان في صلب الحكومة الأولى، وظهر في الموالاة. بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، أعاد الاعتبار إلى «العقدة الدرزية»، المطابقة لـ«العقدة الجنبلاطية» لوالده الراحل إبان حقب حكومات السبعينيات حتى آخرها عام 1975 مع اندلاع الحرب، برئاسة الرئيس رشيد كرامي من دون أن يتمثل فيها.
«العقدة الدرزية» اليوم في الذروة، شأن ما كان عليه جنبلاط في عقد التسعينيات خلال الحقبة السورية عندما يصرّ على وزرائه، وعلى قانون الانتخاب الذي يطمئنه. كل العراقيل والعقبات الأخرى أمام الرئيس المكلف قابلة للحل إلّاه. سلّم الأفرقاء بحصة رئيس الجمهورية، وبالحصة المرجحة للتيار الوطني الحر وحلفائه، وبإيجاد مخرج واقعي لتمثيل النواب السنّة المعارضين، وبتخلي حزب القوات اللبنانية عن معظم شروطه، ولا سيما الحقيبة السيادية وموقع نائب رئيس الحكومة. وحده جنبلاط لم يتزحزح. يصرّ على المقاعد الدرزية الثلاثة في الحكومة الجديدة. يعرف الجميع أن الوحيد القادر على تليين موقفه، هو حليفه التاريخي على مرّ عقود أربعة، الرئيس نبيه برّي الذي لا يكتفي بتفهّم وجهة نظر حليفه الدرزي. بل يدعمها بقوة. إلا أن أحداً لم يطلب بعد وساطة رئيس المجلس وفتواه في المخرج. أتاح ذلك حتى الأمس القريب لـ«العقدة الدرزية» ليس أن تراوح مكانها فحسب، بل تشجع على نشوء عقد موازية لأفرقاء آخرين، يشجعهم جنبلاط على الثبات على شروطهم.
تكاد تكون الآن ثمة عقبة واحدة يتعذّر تجاوزها، هي إصرار جنبلاط على الحصول على كل مقاعد طائفته في الحكومة الجديدة، متبنّياً المعيار الذي لم يضعه هو، ولا افتتح المناداة به كالرئيس المكلف سعد الحريري والوزير جبران باسيل: التوزير تبعاً لنتائج الانتخابات النيابية. كسب الرجل سبعة من النواب الثمانية في طائفته، ما يجعله ــــ كالثنائي الشيعي ــــ الممثل الحصري لها في السلطة الإجرائية، كما بات كذلك في السلطة التشريعية. ليست هذه حتماً حال الحريري، ولا التيار الوطني الحر، ولا حزب القوات اللبنانية، الذين يتقاسمون ـــــ وإن بتفاوت ـــــ زعامة طوائفهم.
عند هذا الحد، أُوصدت أبواب التفاوض دون هذا التصلب: ثلاثة مقاعد درزية، دون الحاجة كما في السابق إلى مقعد مسيحي، وإن لما يزل في عداد كتلته نواب مسيحيون.
في 25 آب الفائت، في احتفال مؤسسة العرفان في السمقانية، بدا جنبلاط أنه يفتح باب التفاوض على مطلب قديم يحضر فجأة ثم يختفي، هو إنشاء مجلس الشيوخ. في هذا الاحتفال، بعدما أكد أنه تعرض مراراً لحصار سياسي من دون أن ينكسر، نافياً مسؤوليته عن عرقلة تأليف الحكومة، دعا إلى المحافظة على اتفاق الطائف «نطبقه ونطوره من خلال إنشاء مجلس الشيوخ بعد انتخاب مجلس نيابي لاطائفي». تلقف بعض الأفرقاء النافذين الفكرة على أن الزعيم الدرزي ـــــ الذي لا يزال يمسك بزمام قرار الطائفة فيما لا يعدو خلفه نجله رئيس الكتلة النيابية فحسب ـــــ يقدّم بنفسه حلاً لعقدته: مقايضة المقعد الدرزي الثالث من دون ذهابه حتماً إلى النائب طلال أرسلان ـــــ بضمانات بالتوجه للفور إلى إنشاء مجلس للشيوخ رسا في مداولات الطائف الاتفاق على أن يرأسه درزي.
في السنوات الثلاث المنصرمة، إبان الشغور الرئاسي، طرح بري والحريري أكثر من مرة فكرة لاستحداث مجلس للشيوخ. ذهب رئيس البرلمان إلى أبعد من ذلك في الكلام عن الصلاحيات المحتملة له في الدستور وبإزاء السلطات الدستورية الأخرى الموازية، وفَصَلَ بينه وبين انتظار تأليف مجلس نيابي وطني لا طائفي، آخذاً في الاعتبار استحالة الوصول إليه في المعمعة المذهبية التي تضرب البلاد. ثم انكفأ لاحقاً الحديث عن مجلس الشيوخ وانطفأ تماماً.
إصرار جنبلاط على حصته الكاملة يخرج موقعه وطائفته من الهامشية
توقيت إثارة جنبلاط هذا المطلب المخضرم منذ إقرار تسوية الطائف، أعاد إلى صدارة الحدث ما تحتاج إليه طائفته في معادلة التوازن السياسي داخل الحكم. لم يكن في وسعه الحؤول دون وصول عون إلى رئاسة الجمهورية، ووجد نفسه جزءاً لا يتجزأ من معادلة السلطة في السنتين الأوليين من العهد. إبانهما لم يكن من الصعوبة بمكان تلمس الضعف والخيبة اللذين ضربا دور الزعيم الدرزي في الخيارات الداخلية، كما في الرهان الذي لم يتوقف على سقوط نظام الرئيس بشار الأسد منذ عام 2011، ناهيك بموقف دروز سوريا وخياراتهم هم أيضاً حيال نظام بدأ يخرج من محنته. أتت انتخابات أيار، بعدما تمكّن من تأمين انتقال هادئ لزعامة المختارة ـــــ وإن على الورق حتى الآن على الأقل وهو استثنائي في هذا البيت ـــــ كي تقدّم دليلاً له وللآخرين على أنه لا يزال يستأثر بتمثيل الشارع الدرزي وطائفته، وهو ـــــ كما اعتاد أن يكون ـــــ في صلب المعادلة الفعلية للحكم لا تجعل طائفته هامشية، ولا تجعله يكتفي بأن يلوذ بصديقه رئيس المجلس طوال الوقت.
قد لا يكون من قبيل الاجتهاد والاستنتاج أن جزءاً رئيسياً من تصلبه حيال حصته غير المنقوصة، أنه لا يواجه طلال أرسلان في التنازع على المقعد الدرزي الثالث. بل رئيس الجمهورية وصهره وزير الخارجية ـــــ بما يمثلان من دور مسيحي استثنائي صاعد في الشوف وعاليه خبرته الانتخابات النيابية الأخيرة للمرة الأولى منذ مطلع التسعينيات ـــــ إذ يوغلان أكثر من أي وقت مضى في الشؤون الداخلية للطائفة الدرزية وتمثيلها السياسي. يحدّدان الأحجام والحصة والتمثيل، ويفرضان التنافس، ويكسران الاحتكار متى نجحا. في ذلك القليل من استعادة ثنائية زعامة الجبل كما مرّت بهما تجربة كمال جنبلاط مع الرئيس كميل شمعون في الشوف، وامتدادها إلى عاليه من خلال مجيد أرسلان.
ربما عنت المقايضة الضمنية بمجلس الشيوخ أحد أوجه هذا الصراع، من غير أن يبدو سهلاً إلى هذا الحد الوصول إلى ضمانات كهذه، أو إبصار مجلس الشيوخ النور بين ليلة وضحاها.