Site icon IMLebanon

جنبلاط يعرف نهاية الفيلم… ويُمرِّر الوقت!

يتأرجَح دروز سوريا بين ثلاثة خيارات: هل يُحْنون الرأسَ قليلاً- في الموقع الحيادي- لمرور العاصفة، أم يَلتحمون «إنتحاريّاً» مع النظام في المواجهة، أم «ينامون على ضَيْم» تحت راية الجهاديين انتظاراً لفرَجٍ قد يأتي؟ وفي اختصار، هل يَذهب الدروز، المعروفون بالواقعية، إلى «الديبلوماسية» الجنبلاطية أم «المواجهة» الوهّابية؟

مِن ميزات الجماعة الدرزية أنّها، في الظروف المصيرية، لا تضَيِّع البوصلة. وهي عبر تاريخِها تمَتَّعت بميزات سمحَت لها بتمرير الأزمات الوجودية. فالدروز يتحَوّلون خليّةً واحدة في اللحظات الصعبة، حيث لكلٍّ دورٌ يؤدّيه بالتكامل مع الآخرين، ولو بدا للبَعض وكأنّه مناقض.

فلا أحد منهم يتفرَّد في القرار والقيادة، ولا تغريه المصالح والارتباطات أو الطموحات لكي يتوَّج بطلاً، كما هي غالباً حالُ الزعماء المسيحيين في لبنان… الذين لطالما انتهى بهم الطموح متوَّجين على الهزائم!

تلقّى الدروز ضربةً في إدلب. ومشكلتُهم هناك معقّدة، إذ لا سبيلَ إلى الحماية، لا الذاتية ولا الخارجية. وأمّا رضوخُهم لتنظيم جهاديّ هو فرع «القاعدة» في بلاد الشام، فلا يمكن الركون إليه. ولو جرى تقديم التطمينات الآنيّة إلى الدروز، فهي ليست موضعَ ثقة. وإذا دامت سيطرة «القاعدة»، ستتراجَع قدرة الدروز على التشَبُّث بأرضهم، وسيغادرونها حتى تفرغ القرى من أهلها تدريجاً.

إذاً، في ظلّ «النصرة»، لا يأمل الدروز بالثبات في إدلب. وهذا خيار عسير لجماعة معروفة بالتشبُّث بالأرض. ولذلك، يَنصَبُّ اهتمام القادة الدروز، والنائب وليد جنبلاط خصوصاً، على استجلاء نقطة واحدة: هل ستَتحرَّر يوماً إدلب من نفوذ «النصرة» أو أيّ جماعة تكفيرية أخرى؟

والجواب هو: الاحتمال ضعيف. ولكن، حتى ولو جاء الجواب إيجاباً، فمتى سيتمّ ذلك؟ هل بَعد سنوات مثلاً، وهل في قدرة الدروز هناك أن يصمدوا حتى ذلك الوقت، فيما القرى الدرزية تبدو اليوم خاليةً مِن غالبية سكّانها من النساء والأطفال والشيوخ؟

الأرجَح أنّ دروز إدلب سيدفعون ثمنَ الجغرافيا والديموغرافيا في عملية التفكُّك الآتية في سوريا ولعبة الخرائط الجديدة، كما دفعَ الدروز في شمال سوريا وجنوبها، عبر التاريخ، أثماناً مماثلة بنزوحهم إلى لبنان أو المغترَبات. وما يقوم به جنبلاط هو توفير الحَدّ الأدنى من التطبيع مع «النصرة»، لتمرير المرحلة بأقلّ ما يمكن من الخسائر.

أساساً، لم يكن جنبلاط ينتظر حصولَ مجزرة في قلب لوزة ليتحرّك. فهو منذ أشهر، وفيما كانت «النصرة» تقترب من المناطق الدرزية في الجنوب، بدأ يُجري مراجعة احتياطية لحساباته وخطابه السياسي.

وفي ذروةِ تمسّكِه بالعلاقة مع «حزب الله»، رفعَ منسوب الحَملة على النظام، وهادنَ «النصرة» إلى حدِّ تبرئتها من تهمة الإرهاب، وفتحَ خطّاً «ذكيّاً» مع «الجبهة» والقوى الإقليمية الداعمة لها من خلال وساطته في ملفّ العسكريين.

وفي الفترة الأخيرة، حرصَ جنبلاط، في لبنان، على جَمعِ أبناء الجبل في اجتماعات ولقاءات حثيثة بهدف وضعِهم في الصورة، وأوصاهم بالحكمة والتعَقّل في التعاطي مع المرحلة، وأبلغَهم بضرورة عدمِ القيام بأيّ ردّة فعل ضدّ نازحين سوريّين، مهما حصَل مِن تطوّرات في سوريا.

ويُحاذِر جنبلاط أن يؤدّي قيام بعض الدروز إفراديّاً بخطوات غير مدروسة في لبنان أو سوريا، ما ينعكس سَلباً على الوضع الدرزي في البَلدين. كما يَحرص على عدم الإساءة إلى العلاقة بالدوَل الخليجية، ولا سيّما السعودية، نظراً إلى مصالح أبناء الطائفة في الخليج.

ولكن، على رغم كلّ «الاحتياطات»، وقعَت الضربة في إدلب. وهذا درسٌ مزدوج لجنبلاط وسائر العاملين في الملف الدرزي:

– أوّلاً: «مسايرة» «النصرة» لا تنفَع كصمّامٍ واقٍ لدروز سوريا.

– ثانياً: لولا «المسايرة» لربّما كانت الكارثة أكبر. وفي أيّ حال، في إدلب لا مجالَ إلّا للمسايرة، فإمكانات المواجهة معدومة.

لقد تجَرَّعَ جنبلاط كأسَ السمّ بعد مجزرة قلب لوزة، وذهبَ في طريق التهدئة لا الانفعال، مستعيداً تجاربَه العديدة في لبنان، حيث تجَرَّع «السمّ» منذ اغتيال والده وصولاً إلى الاغتيالات ومحاولات الاغتيال في 2004- 2005 وما تلاها و7 أيار 2008 وما تلاها.

اليوم، يتحرَّك جنبلاط لدى الأجنحة المسَلّحة مباشرةً، ولدى تركيا وقطر والسعودية والأردن، أي القوى التي يَعرف أنّها شديدة التأثير على «النصرة» أو «داعش». وللأردن أهمّيتُه الخاصة لأنّه على تَماس مباشَر بوضعية «جبل الدروز». وحصَل جنبلاط على وعود تركية بعدمِ تكرار مجزرة إدلب. ولكن، هل يمكن الركون إلى هذه الوعود في ظلّ الفلتان السوري؟

وأمّا الأهمّ فهو مصير السويداء. فالهجمات المتكرّرة على مطار الثعلة العسكري تثير الوساوس، لأنّ المطار بمدرجِه ومداه الحيوي يمتدُّ في محاذاة قرى عدّة. وإذا احتَلّته «النصرة» فستُعتبَر هذه القرى ساقطة عسكرياً، وستكون السويداء على مسافة 12 كيلومتراً مهدَّدة جدّياً.

ولأنّ النظام لا يَستخدم هذا المطار حاليّاً، يتساءل الدروز: لماذا الإصرار على احتلاله إذاً؟ وهل السيطرة عليه ستكون سبيلاً وذريعة لدخول جبل الدروز؟ ويزيد من القَلق الهجوم الأخير على بلدة الخضر، على سفحِ جبل الشيخ.

لذلك، يَستنفر جنبلاط قواه لتحقيق هدفَين:

– الأوّل مباشَر، وهو إحاطة الدروز السوريين في السويداء وإدلب بهالة من الحماية، بضمانات إقليمية، ما يُجَنّبهم إراقةً جديدة للدماء انتظاراً لتبَلوُر المخارج السياسية.

– الثاني هو خَلقُ إطارٍ سياسي للدروز السوريّين، على غرار الأكراد والعلويين وسائر المكوِّنات الأقلّيّة، إذا شاءت التطوّرات أن تحكمَ على سوريا بالتفكُّك.

وفيما يتحرّك جنبلاط للحصول على ضمانات عربية وإسلامية لحماية جبل الدروز، ثَمَّةَ مَن يَعتقد أنّ خيوط اللعبة في الجنوب السوري هي في أيدي إسرائيل لا سواها. ولذلك، لا تُقطَع شعرةٌ من رأس أحدٍ هناك من دون إرادتها. فحتى الفوضى هناك هي «فوضى منظَّمة». وكما يَخشى جنبلاط من دورٍ للنظام السوري في التلاعب بالدروز، هو يَخشى أيضاً دورَ إسرائيل التي سَبقَ وتلاعبَت بالمسيحيين في لبنان.

وأمّا نهاية الفيلم المشرقي الطويل فباتَ يَعرفها جنبلاط وآخرون، بخطوطِها العريضة على الأقل. وفي انتظار النهاية، يتحرّك جنبلاط تحت عنوان: «أللهم اجعَل عبورَنا سريعاً»!