تصِل كلّ المبادرات الرئاسية إلى الطريق المسدود، ولا يدخل الملف الرئاسي ضمن الأولويات على رغم كثرة المبادرات. وقفز الهمّ الأمني إلى الواجهة ليس من بوابة الجنوب فحسب، بل من عوكر بعد الهجوم على السفارة الأميركية. وفي انتظار توضيح كامل الصورة، تُواصل القوى السياسية نشاطها لعلّها تصل إلى حلّ ما.
دخل الحزب التقدّمي الإشتراكي على خطّ المبادرة رئاسياً بعدما تراجع تكتّل «الاعتدال الوطني» على رغم الاعلان بالأمس التنسيق بينهما لخفض السقوف المرتفعة وإحداث خرق ايجابي. واللافت في اللقاءات التي يُجريها الإشتراكي عدم التسمية أو الحديث عن مبادرة متكاملة، بل دخلت زياراته في إطار التشاور ومحاولة فعل شيء ما.
وعلمت «نداء الوطن» أنّ وفد الإشتراكي أقرب بنظرته إلى الثنائي الشيعي من المعارضة، ويوحي لمن يلتقيهم بضرورة الحوار، لأنّ الوضع قد ينفجر في أي لحظة. في حين تحدّثت المعلومات عن محاولة إشتراكية لإقناع الرياض بضرورة قبول الحوار حتى لو كان برئاسة رئيس مجلس النواب نبيه برّي، ويمكن القيام بإخراج مناسب لإظهار عدم إنكسار فريق «القوات» والمعارضة إذا قبل هذا الحوار بعد تدخّل السعودية والضغط على معراب.
عندما انطلقت مبادرة «الاعتدال الوطني» نالت الضوء الأخضر من اللجنة الخُماسية، لكن الأهمّ أنّ برّي وجد في المبادرة فرصة ذهبية لتعبئة الوقت الضائع والوصول إلى حيث يريد هو و»حزب الله»، أي إلى الحوار برئاسة بري.
وحسب ما يروي نواب من «الاعتدال»، وصل برّي في وعوده قبل الإنطلاقة الأساسية إلى التعهد المكتوب بالموافقة على كل البنود ومن ضمنها عقد لقاءات تشاور في المجلس من دون رئاسة أحد، وبعد صولات وجولات من نواب «الاعتدال» عادوا إلى برّي و»حزب الله» ليصطدموا بالجواب الواحد: حوار برئاسة برّي.
سقطت مبادرة «الاعتدال» بضربة الثنائي الشيعي، فظهر النائب السابق وليد جنبلاط على الساحة، وبحسب مصادر متابعة، لا يروق للإشتراكي سرقة الأضواء والحوارات منه، فجنبلاط تعوّد لعب دور «بيضة القبّان»، ويعتبر نفسه قادراً على الكلام مع أقصى المعارضة، أي «القوات اللبنانية»، ومع أقصى «الممانعة» أي «حزب الله».
بعد خروج الرئيس سعد الحريري وتيار «المستقبل» من السلطة والاعتكاف المستمر، تعرّضت «الترويكا» التي حكمت لبنان بعد الطائف، والتي ضمّت «المستقبل» والإشتراكي وحركة «أمل»، لضربة قوية، وبما أنّ جنبلاط هو صديق برّي، فلا يرضى الرجُلان بدخول طرف آخر على خطّ المبادرة أو التأثير في قواعد اللعبة، بالرغم من عدم وقوف الإشتراكي في وجه مبادرة «الإعتدال».
وإذا كان هذا السبب مهمّاً، إلا أنّ حراك جنبلاط حصل بعد عدّة مؤشرات واجتماعات، أوّلها نسف الثنائي الشيعي مبادرة «الاعتدال»، حيث صارت الساحة الداخلية بلا مبادرات، فدعم برّي دخول الإشتراكي لملء الفراغ وتكريس أعراف جديدة، أما السبب الثاني لحركة الإشتراكي فيعود إلى زيارة جنبلاط قطر وقراءة الأجواء هناك، من ثمّ اللقاء مع الموفد الفرنسي جان إيف لودريان، وبالتالي حصل على موافقة ضمنية للتحرّك.
يُعتبر برّي وجنبلاط من أكثر السياسيين اللبنانيين قدرة على التحرّك وقراءة المشهد واستحضار «الأرانب»، لذلك وقع خيار برّي على جنبلاط للّعب في الساحة الرئاسية، ففريق المعارضة الذي كان حليفاً للإشتراكي قد يتجاوب بعض الشيء معه، وبرّي يأخذ على عاتقه الحديث مع «حزب الله».
وإذا كان بري وجنبلاط من أكثر السياسيين فهماً للتركيبة اللبنانية ولتطوّر الأمور، وعلى رغم حملات التحريض التي يمارسها «حزب الله» و»الممانعة» على حزب «القوات اللبنانية» وتحميله المسؤولية عن الفراغ الرئاسي لرفضه الحوار، أتى موقف البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي من البقاع، وموقف رئيس «التيار الوطني الحرّ» النائب جبران باسيل في وقت سابق ليضع «فيتو» مسيحياً كبيراً لا يمكن تجاوزه، وأكد عدم قبول المكوّن المسيحي بتكريس أعراف جديدة عند كل استحقاق رئاسي، بحيث يلجأ الثنائي الشيعي إلى فرض حوار عند كل إنتخابات رئاسية ويعطي رئاسة المجلس حق إدارة الحوار.
ويظهر من الأجواء عدم قدرة مبادرة الإشتراكي على الوصول إلى أي نتيجة إذا كان الهدف المرسوم لها هو تلبية رغبات برّي بترؤّس الحوار والإلتفاف على مبادرة «الاعتدال» بمبادرة أخرى وإقناع الرياض بالحوار والضغط على «القوات» والمسيحيين للسير به، في حين يبقى الترقّب سيّد الموقف إلى حين اتّضاح الصورة في غزة وجنوب لبنان والمنطقة.