هناك من توهّم أنّ في استطاعته كسر رئيس «الحزب التقدمي الإشتراكي» وليد جنبلاط، وظنّ مخطئاً انّ إمكانية الإطباق عليه متاحة، فجاءه الرد سريعاً في أن قَلَبَ جنبلاط الطاولة على الجميع وأعلن بلا مجاهرة: «إذا أردتموها معركة فلتكُن».
لمَن خانته الذاكرة أنّ جنبلاط كان حليفاً وثيقاً للنظام السوري، ولكن عندما قرر هذا النظام، على أثر انتقال السلطة فيه من الأب إلى الإبن، التخلّص من جنبلاط وبالتوازي من الشهيد رفيق الحريري وتسييد النظام الأمني المشترك بإنهاء الحيثية الدرزيّة والسنيّة على طريقة إنهاء الحيثية المسيحيّة، إنقلب رئيس «الإشتراكي» على النظام الجديد في سوريا، وكان ما كان من اغتيالات ومحاولات اغتيال أدّت في نهاية المطاف إلى خروج الجيش السوري من لبنان.
وثمة من قرر اليوم ان يعيد الكرة مُتوهّماً انّ الرئيس سعد الحريري دُجِّن، وهو ليس كذلك على الإطلاق، وانّ التخلُّص من جنبلاط يزيد في «تدجين» الحريري، ويجعل الدكتور سمير جعجع وحيداً تمهيداً للتخلُّص منه، ومعتقداً انه بهذه الاستراتيجية يضرب عصفورين بحجر واحد: يؤدي خدمة كبرى لـ»حزب الله» باستبعاد 3 مكونات حزبية سيادية وازنة تجسِّد التوازن الوطني في مشروع السيادة والدولة، ويعبِّد طريقه الى القصر الجمهوري، لأنه متى تخلّص من خصمه المسيحي الأساسي، ورجّح كفة حليفه الدرزي، واستفرد بالحريري، تصبح طريق بعبدا سالكة في الاتجاه الذي يريده.
وقد توهّم هذا البعض انّ لحظة التخلُّص من جنبلاط مستوفية كل شروطها: إنتقل درزياً من موقع المبادر إلى موقع المدافع عن مواقعه التي يخسرها الواحد تلو الآخر: تراجع نيابي تلاه خرق وزاري درزي، وتوفير كل مقومات التغطية السياسية للوضعية الدرزية الجديدة والتي ترافقت مع وضعية باسيلية نيابية ووزارية في جبل لبنان الجنوبي، وخلاف بين جنبلاط والحريري وصلَ إلى حدود غير مسبوقة، وعلاقة عادية بين جنبلاط وجعجع، والرهان على نأي الرئيس نبيه بري بنفسه بسبب مواقف جنبلاط من النظام السوري إلى شبعا وعدم تمكّنه من الدفاع عنه تلافياً لإحراج «حزب الله» المنزعج من جنبلاط، وغياب اي غطاء خارجي من واشنطن إلى الرياض.
فقد اعتبر هذا البعض انّ هذه المعطيات وغيرها قد لا تتكرر وتشكل فرصة مؤاتية لقلب الطاولة على جنبلاط، وفي هذه المناخات بالذات تمّت زيارة باسيل لمنطقة عاليه، فإذا واجه «الإشتراكي» الزيارة ستكون بداية نهايته، وإذا لم يواجهها ستكون بداية النهاية أيضاً على طريق إطباق الحصار عليه وإظهاره امام بيئته أنه أصبح في موقع العاجز عن الفعل والتأثير.
وما تقدّم لا يعني انّ «الإشتراكي» كان البادئ بإطلاق النار، ولكن هذا الحزب أراد القول انّ هناك خطوطاً حمراء ممنوع تجاوزها، وعندما حاول الطرف الآخر فرض أمر واقع جديد وكسر الطوق الشعبي حصل ما حصل، وفي مطلق الحالات لا يجب استباق التحقيقات التي ستحدد مَن البادئ بإطلاق النار، وكل التهويل بالإحالة الى المجلس العدلي هدفه ترجيح رواية على أخرى، فيما المسؤولية الأساسيّة عن كل ما حصل هي سياسية بالدرجة الأولى، لأنّ الترجمة الأمنية هي ترجمة لاحتقان سياسي معروف المصدر والتوجهات والخلفيات.
وما لا يدركه هذا الطرف تماماً كما لم يدركه في وقت سابق انّ جنبلاط يمثِّل الوجدان الدرزي في الجبل بعمقه الشعبي والديني وامتداداته الدرزية الخارجية، وانّ محاولة كسره تعني كسر الموحدين الدروز وأخذ البلد إلى الحرب، وهذا ما يفسِّر تعامل جنبلاط مع حادثة قبرشمون ببرودة تامة وتركها تتفاعل قبل ان يلتقط المبادرة مجدداً، مستفيداً من المعطيات الآتية:
ـ أولاً، انّ أحداً لا يريد تحويل المواجهة مع «الإشتراكي» مواجهة مع الموحدين الدروز تقود لبنان إلى حرب أهلية، فيما محاولة الفصل بين «الإشتراكي» والطائفة الدرزية هي محاولة صبيانية وفاشلة.
ـ ثانياً، انّ العهد الذي يواجه أصعب أزمة اقتصادية عرفتها البلاد منذ تسعينات القرن الماضي لا يتحمّل مواجهة طائفية تسرِّع الانهيار وتقود إلى الفوضى.
ـ ثالثاً، انّ «حزب الله» يريد الحفاظ على الستاتيكو الحالي وتجنُّب انهياره لكي لا يعطي ذريعة للتدخل الخارجي في لحظة يصبّ كل تركيزه فيها على التطورات الكبرى على خط واشنطن-الرياض، فإذا نجح مخطط كسر جنبلاط من دون تداعيات فإنه لا يمانع، وفي حال تبيّنت صعوبة ذلك فإنه يعيد النظر في موقفه، وهذا ما يفسر موقف الوزير محمود قماطي مع بداية الأحداث وتراجع الحزب لاحقاً لدى تلمّسه استحالة تحقيق الهدف المرسوم.
ـ رابعاً، إنّ أحداً من القوى السياسية الحليفة لجنبلاط أو التي تتصِف علاقتها معه بالباردة سياسياً ليس على استعداد لإعطاء باسيل ورقة ضرب التوازنات الحالية لمصلحته وتقويته وتعزيز مطامعه الرئاسية، وهذا ما يفسِّر التحرّك السريع لجعجع إلى دار الطائفة الدرزية في رسالة مفادها انّ ما جمعته المصالحة مع جنبلاط والموحدين باقٍ ومستمر، وتجاوز الحريري خلافه مع جنبلاط واستعداده لتجديد التحالف معه، وإعطاء بري إشارة قوية الى أنه لن يتخلى عن حليف محلي يشكّل سنداً لدوره الداخلي وتقاطعاته، ودخول سليمان فرنجية على الخط مُبدّياً التوازنات المحلية التي تقطع الطريق امام باسيل على الخط الخارجي الذي يريد رأس جنبلاط.
فلقد أسقط جنبلاط المحاولة التي حيكت ضده، وخطأ هذا البعض انه لا يفقه في التاريخ ولا التوازنات ولا حركة الطوائف والخصوصيات، وظنّ انّ في استطاعته تحقيق ما عجز الأسد عن تحقيقه قبله.
والمسألة أبعد وأعمق مِن حق يكفله الدستور والقانون بعدم وجود مناطق مقفلة أمام أي كان، وباسيل نفسه كان قد جالَ وصال في الشوف من دون ان يقترب منه أحد، ولكن ما بين زيارته للشوف وزيارته لعاليه اختلفت الحسابات والأجندات، فاعتقدَ واهماً انّ قلب الطاولة على جنبلاط قد حان، فردّ رئيس «الإشتراكي» بقلب الطاولة على باسيل ومَن معه. وللبحث تتمة….