بكثير من الاستسلام الممزوج بشيء من اللامبالاة، قدّم وليد جنبلاط بالأمس جردة حساب يرجح أن تكون الأخيرة قبل أن يرفع كتاب استقالته من مجلس النواب، من دون أن يعني ذلك تقاعده السياسي، مع أنه يبدو ميالاً الى التحرر من القيود الكلاسيكية المتوارثة للعمل السياسي.
بات جنبلاط يفضل اللوحات العبثية لتلوين تغريداته النقدية عبر «تويتر». يبتعد عن «الكليشيهات» النمطية. قد تحب الرجل او تكرهه، تناصره أو تخاصمه، ولكن لا يمكن لك الا أن تلاحقه في عالمه الافتراضي الجديد!.
لن يكون مستغربا أن يجد جنبلاط دوماً من يعايره بالقول: أنت آخر من يعلّم الناس الإصلاح. تجارب الزعيم الدرزي السابقة التي كانت تنتهي زوبعةً في فنجان مطلب أو مطالب محددة، تسقط عنه صفة «النيو اصلاحي».
ولهذا مثلاً، تجاوزت الحملة التي شنّها بوجه «الصنائع» السؤال عن صحة ما ساقه، الى سؤال آخر مفاده: ماذا يريد جنبلاط من نهاد المشنوق؟
ومع ذلك، فإنّ اطلالته التلفزيونية بدت مفاجئة في هدوئها السياسي. يدرك جيداً كيف يوجّه بوصلته وأين يريد أن يحطّ رحاله. كأنّه وليد جنبلاط آخر، غير ذلك الذي يشعل الفضاء الافتراضي بقنابله الصوتية. بدا الرجل مستعداً لفعل أي شيء لوقف حالة الاهتراء الحاصلة في الداخل اللبناني، ووقف عدّاد الشغور الرئاسي. التضحية بهنري حلو ليست مشكلة. المهم التوصل الى تفاهم يطمئن «حزب الله» ويعيد الانتظام الى الحياة الدستورية.
هكذا كانت «الزبدة» في «التمريرات» الإيجابية التي وجهها صوب الضاحية الجنوبية. نعى كل الأحزاب اللبنانية وأقرّ لـ «حزب الله» حديديته، ووصف العلاقة بين حارة حريك وظهيرها الإقليمي أي طهران بالشراكة ليس فقط بالملفات اللبنانية وانما بكل ملفات المنطقة، حاذفاً بذلك كل نعوت «التبعية» و«اللا استقلالية» وغيرها من «صلات الرحم» العقائدية والشرعية.
وبعدما اعتبر أن «موضوع السلاح يستوعب سلميا»، وصل به مسلسل الغزل الى حدّ إلحاق قرار «اللقاء الديموقراطي» في ما يخصّ النصاب الدستوري لانتخابات رئاسة الجمهورية بقرار «حزب الله»، وهنا أكثر المفاجآت دوياً.
هي المرة الأولى التي يعلن فيها الزعيم الدرزي احترامه لمقاطعة «قوى 8 آذار»، لا بل التزامه أيضاً بهذا القرار وتكريسه عرفاً لا يجوز القفز فوقه. قال جنبلاط «أنا لا أشارك في جلسة رئاسية يتأمن فيها النصاب ولا يشارك فيها «حزب الله» لأنه فريق أساسي ونحن نتمسك بالعرف السياسي».
بهذا الموقف، نسف جنبلاط السيناريو الذي كان سعد الحريري يحاول فرضه من خلال تأمين نصاب بغياب «حزب الله» و «تكتل التغيير والاصلاح» لانتخاب سليمان فرنجية رئيساً. صحيح أنّ الأخير لا يزال حتى هذه اللحظة متمسكاً بحبل سرّة تحالفه مع الضاحية الجنوبية، الا أنّ رفض جنبلاط انتخاب رئيس من دون مشاركة «حزب الله» يعني العودة الى المربّع الأول.
ولكن هناك من يقول إنّ الدقيقة الأخيرة من المقابلة مع الزميل مرسيل غانم هي التي تختصر الجردة: مستقبل تيمور. يُفهم من مسار «البيك» أنها ورشة «تنظيف السجل»، تمهيداً لجلوس تيمور على كرسي المختارة. إنه صخب المرحلة الجديدة التي تحتاج الى قواعد جديدة ووجوه جديدة، ووليد جنبلاط هو الأشطر في اشعال هذا الصخب.