ضاق عليه الثوب فجاءته رياح البساتين بنافذة انقضاض على ما يعتبره حصاراً
قرأ جنبلاط مجموعة من التطورات ربطاً بالصراع الأميركي – الإيراني فقرر أن اللحظة مناسبة لانتفاضة مدروسة على الواقع الذي كرّسه العهد الرئاسي
يدرك وليد جنبلاط من أين تؤكل الكتف. فعقوده الأربعة في العمل السياسي والحزبي جعلته ضليعا في تحيّن الفرص واصطياد اللحظات. وزئبقيته مكّنته من الاستمرار في السياسة والحزب والزعامة رغم كل ما مرّ من تغيّرات دراماتيكية محلية وسورية وإقليمية ودولية.
يكفي التبحّر أين كان عند اغتيال والده في 16 آذار 1977 يوم تقلّد عباءة الزعامة ليتصالح بعد أيام قليلة مع من لا يزال ينتظر أن تمرّ جثته عند ضفة النهر، وأين أصبح راهنا، ليُدرك ما للرجل من قدرة استثنائية على الاستيعاب والتأقلم والإدبار والاندفاع وقراءة تيارات السياسة وأنوائها وتبيان حركة الأرض والجغرافيا.
السياسة عنده متحركة، ففي الجمود إعاقة وزوال. وتاريخه السياسي لا يحتاج الى شواهد لإبراز هذه القناعة.
منذ إنتخاب ميشال عون، وجد الرجل نفسه مكبلا، لا هو قادر على الإقدام لأن المساحات التي طالما أجاد اللعب من ضمنها وعلى هامشها، لم تعد كما كانت، ولا هو في وارد الإدبار لأن ذلك يعني فراغا زعامتيا، والسياسة، كالطبيعة، تأبى الفراغ. فكمِن أعواما ثلاثة، بين كرّ وفر في العلاقة مع الرئاسة، مع إدراكه أن دوره العابر لجماعته يتقلّص، وأن نفوذه يضيق درزيا بين جبليّ لبنان والعرب، وأن بيضة القبّان التي طالما وُصف بها صارت في مكان آخر.
أتت نسبية العام 2018 كابوسا حقيقيا، ثمة من صار شريكا له على مستوى الجبل، يتقاسمه النواب المسيحيين، ويكاد يخرق تمثيله الحصري، لولا استنجاده بصديقه التاريخي. لكنه في النهاية قبِل بالأمر الواقع، ففضّل تمرير عاصفة تشكيل الحكومة بالوزيرين وبالتي هي أحسن، على أن يعوّض بمكاسب أخرى (تعيينات على الأرجح) قبوله بوزير ثالث من خارج معسكره، في انتظار لحظة الفرج، أو إنتهاء العهد.
كان واضحا أن الرجل ضاق عليه الثوب كثيرا. وهو ليس ممن يستكين. فظلّ في مكمنه الى حين اللحظة التي تعيد له القدرة على المبادرة، وعلى قلب الطاولة، لِمَ لا!
في الفترة الأخيرة، علا صوتُه كثيرا، مع حزب الله (وبات سبيل مزارع شبعا يمّر حكما بمجبل آل فتوش)، في العلاقة مع رئيس الجمهورية وتياره، لكن أيضا في صلاته مع سعد الحريري، وهو يأخذ عليه، بل يعيب عليه إصراره على التمسّك بالتفاهم الرئاسي ومفاعيله، ولطالما أوحى أن مفاعيله هذه عبارة عن حِسبة مالية وبيزنس سياسي أكثر منها تلاق سياسي أو أي صيغة أخرى.
المهم أن الرجل مارس ما يجيد: الإنتظار الى حين لحظة الإنقضاض. وهو أتت ما به إليه البساتين. بادر الى إمتصاص الصدمة، والى إطلاق حملة واسعة للتحشيد واللوبينغ مع كل من يجتمع معه على معاداة العهد وتياره. وتوسّع في حركته صوب البعثات الديبلوماسية ليشرح ما يعتقده حصارا سوريا – إيرانيا عليه.
لكن هل كانت رياح البساتين هي فعلا شرارة لحظة الانقضاض؟
ثمة من يرى أن الرجل قرأ إقليميا ودوليا مجموعة من التطورات ربطا بالصراع الأميركي – الإيراني والتضييق الاقتصادي على طهران وحلفائها على امتداد الرقعة الأوسطية، وقرر أن اللحظة مناسبة لانتفاضة مدروسة على الواقع الذي كرّسه العهد الرئاسي بالشراكة الكاملة مع سعد الحريري. وأسس هذه الانتفاضة على ما يقال انه عزل وحصار للمختارة وإستطرادا الجماعة الدرزية التي تُختصَر بالمختارة، وهو شعار جذاب دوليا، إنطلاقا من أن الغرب الليبرالي ضعيف أمام كل تسويق لعبارة «إضطهاد الأقليات السياسية والمذهبية»، فيما الإتحاد الروسي لا يدير الأذن ولا الظهر لعبارة مماثلة، وخصوصا متى جاءت من حليف سابق. ولتحقيق هذا الإستعطاف، كان لا بدّ من إستثمار عميق حتى لو كان باللون الأحمر، وهو ما أتت له به أحداث الشحار الغربي.
ربطا بكل ذلك، يُتوقع أن يكون جنبلاط في صدد إعادة تموضع جديدة قائمة على نصف التفاف: يقوده أولا الى فك ما يعتبره حصارا سياسيا – خدماتيا عليه، على أن يستثمر هذا الواقع الجديد في مجموعة من الإستحقاقات المحلية المقبلة، في طليعتها التعيينات والخدمات، ويساعده ثانيا في التأسيس لإعادة استجماع قواه تحضيرا لإستحقاقين مفصليين نيابي ورئاسي، خصمه الوحيد فيهما جبران باسيل!