IMLebanon

جنبلاط الإقليمي: الخياراتُ الصعبة والتحديات الوجوديّة

الأزمة الوجودية التي يُواجهها دروز سوريا اليوم ليست الأولى من نوعها على رغم الشعور بأنّها الأسوأ من بينها كلّها. لقد سبق أن تعرَّض دروز المشرق لتحدٍّ وجودي أيام المماليك حيث كُفِّروا وذُبحوا. وحدث الأمر نفسه، وإن بمضمون أقلّ حدّة، على أيّام حملة ابراهيم محمد علي باشا. ومرة ثالثة وقعت أزمة مماثلة تمّت معالجتها، وكانت مع المسيحيين عامَي 1840 و1860.

العبرة التي تركتها كلّ هذه التحديات تمثّلت بسؤال ما انفكّ مطروحاً على الدروز، وهو كيف يمكن تعويض ضآلة العدد الديموغرافي بدور فعال لهم تحتاجه تناقضات مجتمعاتهم. والواقع أنّ المختارة من بين كلّ مكوّنات الديموغرافيا الدرزية في المشرق، نجحت في إرساء سياسات تطبق هذه المعادلة. ومثّل كمال جنبلاط ذروتها، ووليد جنبلاط خدم فكرتها ونجح في تجسيدها إلى حدٍّ غير قليل.

ما يغيب عن الآخرين أنّ قصر المختارة لا يُفاجَأ بهذا النوع من التحديات الـ»وجودية». فقاطنوه، حتى في أيام الرخاء، يتهامسون بخصوص إمكانية نشوبها في وجههم، يوماً ما، ولحظة تتفلّت فيه توازنات المنطقة من عقالها لسبب أو لآخر.

وجوهر المشكلة الآن، انطلاقاً من أزمة دروز سوريا مع أحداث الحرب الداخلية في بلدهم، هي أنهم لم يبنوا لتعويض ضآلتهم الديموغرافية دوراً فعالاً لهم يحتمون وراءه، قياساً بما فعله دروز لبنان.

ويتمّ إيعاز هذا النقص لدى دروز سوريا لأسباب تتّصل بأنّ الدولة السورية البعثية، لم تسمح ببروز قيادات ومرجعيات خارج مؤسسات حزبها الحاكم، لا دينية ولا مناطقية. فالمرجعية الدينية الدرزية في سوريا تقسّمت على اكثر من شيخ عقل، لكي لا تتراكم في يد شيخ واحد فينال لقب المرجعية. وكذلك الحال بالنسبة إلى العائلات الدرزية التاريخية التي تقلّص نفوذها الاجتماعي ليقتصر على حالات «وجاهة» ضيّقة داخل بلداتها.

لقد هوت هياكل ما يمكن تسميته بمرجعية «الإقطاع الدرزي» في سوريا، والتراتبية الاجتماعية التي حلّت مكانه ارتبطت بالنظام من خلال الانخراط في الصفوف العليا في الجيش. كما أنّ هذه التراتبية اتجهت في مجال آخر، لتصبح اقتصادية بين ميسورين وعامة، وقصارى القول إنّ نسق الاجتماع الدرزي في زمن البعث لم يراكم مرجعية سياسية على نحو ما حصل في لبنان.

هذا التفسير الآنف تقول به محافل درزية لتبرير «الحيرة» التي تواجه حالياً دروز سوريا على مستوى «كيف» و»من» (بمعنى أيّ جهة او مرجعية) تُحدّد لهم الخيار الذي يحميهم في هذه اللحظة.

وطبيعة هذا السؤال تقود تلقائياً أوساطاً بينهم الى التفكير في خيار الاستعانة بعلاقات وثقل المرجعية السياسية الدرزية في لبنان المتمثّلة بالمختارة. طبعاً هذا الخيار توازيه خيارات أخرى تتحدث عن اللجوء إلى مرجعية الدولة السورية بوصفها ضمن الفرز الطائفي الراهن في سوريا تمثل كبرى الأقليات المستهدفة. وثمّة أيضاً مَن يبحث داخل المعارضة السورية عن مرجعية لتحمي الدروز.

واللافت أنّ كلّ هذه الخيارات تتقاطع عند حقيقة أنّها لا تضمن لدروز سوريا اليقين لجهة ضمان مستقبلهم وحتى استمرار وجودهم السوري. ومع ذلك فإنّ كلّ خيار يحمل في ثناياه مزايا تؤشر لفرص بالنجاة.

الخيار الجنبلاطي و«نظرية التكيّف»!!

يستند خيار جنبلاط في معالجة ازمة دروز سوريا التي ترقى الى مستوى تحدٍّ وجودي، على نظرية «التكيّف» البراغماتي مع القوة الاسلامية السلفية الصاعدة في سوريا. وهذه نظرية يعتقد جنبلاط أنها صالحة لكلّ هذه المرحلة التي تتطاحن فيها الأكثريات الاسلامية في المنطقة (السنّة والشيعة). ومثلما يدعو جنبلاط دروز جبل السماق والسويداء إلى تطبيقها مع سنّة سلفيّي «جبهة النصرة» الصاعدة في سوريا، فإنّه هو ذاته يمارسها في لبنان مع قوة الاسلام الشيعي الصاعد.

ومن وجهة نظره، فإنّ دروز سوريا الذين لا يملكون أدوات سياسية او عسكرية للدفاع عن أنفسهم، يتوجّب عليهم مسايرة المناخ العام في سوريا الذي يُحدّده بأنه مناخ المعارضة السلفية السنّية الجهادية التي في رأيه أنّ «أهون شرّها» هي «جبهة النصرة» قياساً بـ»داعش» المتفلّتة من أيّ ضوابط خارجية!

أصل الفكرة

والواقع أنّ فكرة التحالف السياسي او حتى التقارب المذهبي مع السنّة، سواء لغرض إزاحة التحدّيات عن الدروز او لإضافة مكاسب لهم، هي فكرة قديمة ومضمرة في المختارة، وربما جنبلاط يستحضر «تميمتها» الآن. لقد كان جنبلاط الأب عشية الحرب الأهلية اللبنانية، قارب هذه الفكرة داخل حلقاته الضيقة، وذلك انطلاقاً من اعتقاده بأنّ السنّة يشكلون رافعة صعود سياسي للدروز داخل نظام الحكم اللبناني.

وبحسب ما ينقل عن اسرار المختارة في تلك الفترة، فإنّ كمال جنبلاط رأى في قرارة نفسه لبرهة طويلة أنه يجب على الدروز كمذهب إنشاء تقارب مع السنّة، على أن يتمّ تسييل هذا التقارب الديني سياسياً داخل لبنان، وذلك من خلال جعل منصب رئاسة الحكومة من حصة المسلمين مجتمعين (أي السنّة والدروز) وليس فقط من حصة السنّة وحدهم.

آنذاك كان يتكئ جنبلاط الأب في طموحه لنيل رئاسة الحكومة على تغيّرات ديموغرافية تحدث فوق الساحة السنّية اللبنانية، تمثل أبرزها بدخول قوي لحلفائه الفلسطينيين في ثناياها السياسية، مضافاً اليها ما استتبعه ذلك من وهن طرأ على العائلات السياسية التقليدية السنّية في العاصمة لمصلحة حالات سياسية سنّية «ثورية وشعبية» مرتبطة بالمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية التي كان مناخها يتعاظم في مواجهة المارونية السياسية والتقليد السياسي الاسلامي.

يحاول وليد جنبلاط اليوم استعارة فكرة والده للصعود على «السلم السنّي الجهادي» الصاعد في سوريا، ولكن هذه المرة لحماية دروز سوريا وإزاحة الغمامة الوجودية عنهم، وليس لبلوغ ارتقاء إضافي لهم داخل مستقبل النظام السوري كما فكرت المختارة في لبنان عام 1975.

ومشكلة هذا الخيار اليوم، تقع في اختلاف الظروف الذي يبيّنها اختلاف الفرق بين البنية السنّية ذات المضمون العروبي التي ذهب جنبلاط الأب لتوسّلها لإضافة مكاسب للدروز داخل النظام اللبناني وإسقاط المارونية السياسية، وبين البنية السنّية ذات المضمون السلفي التي يقصدها وليد جنبلاط اليوم لإبرام تسوية حفظ بقاء الدروز في سوريا والتكيّف مع مرحلة ما بعد اسقاط نظام الرئيس بشار الاسد.

عقبات تفصيلية

الى ذلك يُواجه خيار جنبلاط على مستوى تفصيلاته عقبات كثيرة، أبرزها أنّه حتى لو نجح في إنتاج صيغة تمكن دروز سوريا من التكيف داخل مناخ «جبهة النصرة» ومشروعها السوري، (وهذا ما قلّلت من شأنه مبدئياً مجزرة قلب لوزة في إدلب)، فإنّه لن يجد سبيلاً لتكرار هذا الامر مع «داعش» المتّسمة بالميل لعدم عقد تسويات مع مكوّنات من خارجها، حتى لو كانت سنّية. ومبرّر هذا القلق ينطلق من أنّ السويداء اليوم لا تواجه فقط خطر اجتياحها من «النصرة»، بل تواجه على القدر نفسه خطر سيطرة «داعش» عليها.

ومع تتبّع العقبات التفصيلية، يتّضح أنه حتى لو كان الافتراض أنّ الخطر على الدروز محصور بـ»جبهة النصرة»، صحيحاً، فإنّ تجربة وساطة جنبلاط معها عبر تركيا وقطر وقنوات اكثر مباشرة، بيّنت وجود مشكلة مهمة حتى داخل هذا الافتراض. وسببها بحسب مصدر تركي «وجود فوارق داخل «النصرة» في مستويات التشدد العقائدي لا يمكن ضبطها دائماً».

والمقصود هنا هو أنّ منسوب التشدّد لدى المعتبرين داخل النصرة «حالة غير سورية»، (المهاجرون) عال، في مقابل انخفاض منسوبه لدى «الانصار» المعتَبَرين حالة سورية، نظراً لأنّ هؤلاء جاؤوا بغالبيتهم الى «النصرة» من انشقاقات حصلت في صفوف «الجيش السوري الحر».

ويسود الرهان على أنه مع جناح «الانصار»، يمكن الركون لضمانات معقولة. أما مع جناح «المهاجرين» فلا ضمانات أكيدة. وما يُعقّد هذه الاشكالية اكثر هو وجود شكوك في أنّ «أبو محمد الجولاني» سيعمد في اللحظات الحاسمة لإغضاب «المهاجرين» داخل بنية تنظيمه كرمى للوفاء بالتزام قطعه لمكوّن اجتماعي يعتبره غير حاسم في معادلته الكبرى للسيطرة على سوريا.

وتُضاف هنا عقبة أخرى تتمثل في حسابات «النصرة» ذات الصِّلة بصراعها المرير مع «داعش» لاستقطاب «المهاجرين» الذين يعود اليهم الفضل بنسبة عالية في تحقيق الإنجازات العسكرية الاستثنائية ضدّ النظام.

والواقع أنّ إشكالية الفوارق بين موقفي «المهاجرين والأنصار» داخل «النصرة»، لها اعتبار كبير في تشخيص إمكانية تطبيق «نظرية التكيّف» الجنبلاطية كصيغة لتسوية أزمة دروز سوريا.

لقد بدت واضحة اهمية هذه الاشكالية أقلّه خلال معالجة ازمة حماية دروز ادلب، بعد مجزرة قلب لوزة؛ إذ إنّ جوهر هذه المعالجة ارتكز على إجراء أساسي وهو نقل «الامرة الشرعية» في جبل السماق من ايدي «المهاجرين» في «جبهة النصرة» عبر إزاحة الامير التونسي، الى أيدي «الانصار» السوريين فيها عبر تعيين امير سوري مكانه.

استنفار الطاقات الدرزية

ثمّة خيار آخر من خارج ما هو متداوَل حالياً في السجال الدرزي المشرقي، ترى أوساط درزية أنه يجدر فتح بابه، ويتمثل في دعوة المغتربين والمهاجرين الدروز حول العالم، إلى تشكيل «لوبي ضغط» على الدول الفاعلة التي يقيمون بين ظهرانيها لتحصيل ضمانات دولية من أجل حماية دروز سوريا.

معلومٌ في هذا المجال أنّ الانتشار الاغترابي الدرزي لديه وجود مهم في كاليفورنيا في الولايات المتحدة الاميركية (نحو ثلاثمئة الف درزي) وفي ولايات أخرى، ولديهم أيضاً دار للطائفة الدرزية في لوس انجلوس.

وهناك ايضاً فعالية اغترابية درزية اخرى مهمة، تتمثل في مؤتمر عام للمهاجرين الدروز. وبات لهذا المؤتمر شكل المؤسسة لانتظام عقده كلّ عام في إحدى دول انتشار الاغتراب الدرزي.

ويرى اصحاب هذا الخيار أنّ المطلوب اليوم اضافة مهمة عاجلة ومركزية لهذه الحيثيات الدرزية الاغترابية كافة، تتمثل بالعمل لتوحيد كلّ إمكانات دروز الاغتراب الدرزي وتفعيلها عبر أنشطة مختلفة وراء هدف تحصيل ضمانة دولية لدروز سوريا.

هل توجد واقعية كافية في هذا الخيار؟

بحسب إجابات خبراء مطّلعين على الوضع الاغترابي الدرزي، يمكن تسجيل غير ملاحظة أساسية تسلط الضوء على جدّية هذا الخيار:

– الاولى تلفت الى أنّ طبيعة تقاليد تفكير الاغتراب الدرزي تتّسم بأنها تعطي اولوية شبه مطلقة للحفاظ على وجود الهوية الدينية للدروز، بأكثر مما تنحو لتكون ذراعاً سياسياً مستعداً للنضال من اجل الحفاظ على المكاسب السياسية او الجغرافية لدروز المشرق، أو أقله لم يسبق أن تمّ اختبار ما اذا كان دروز الاغتراب لديهم استعداد لفعل ذلك.

فالمؤتمر السنوي للدروز في المهاجر، تضع له كواليسه سبباً مهماً لعقده وهو أن يكون مناسبة لتعارف الشابات والشبان الدروز ما يمنح فرصة لزواجهم بعضهم من بعض. بمعنى آخر، فإنّ هدف الحفاظ على الوجود الدرزي ضمن المذهب بالنسبة للاغتراب الدرزي، هو الهمّ الأساس وله أسبقية حاسمة في تفكيرهم التقليدي على همّ الوجود السياسي للدروز.

– الملاحظة الثانية تؤشر الى أنّ المختارة لم تفسح داخل خططها مجالاً واسعاً لدور سياسي لدروز الاغتراب لدعم دروز المشرق، أو أقلّه يمكن القول إنّ تفكيرها على هذا الصعيد لا يشابه زعماء الشيعة والموارنة في لبنان من حيث اهتمامهم السياسي وليس فقط الاقتصادي بالمغتربين من بني جلدتهم. وترد في هذا السياق وقائع دالة، منها أنّ العديد من المغتربين الدروز حاولوا بناء شراكة في القرار الى جانب جنبلاط، لكنّ الاخير بدا غير ميال لهذا النوع من العلاقة.

كما أنّ حالات اخرى اغترابية درزية تبرّعت بإنشاء مشاريع في الخارج يكون لها امتداد في المشرق وراجعت المختارة بها، أبرزها فكرة انشاء مركز دراسات للتاريخ الدرزي بالتوأمة مع جامعة كولومبيا في نيويورك، لكنّ جنبلاط رفض معتبراً أنّ تاريخ الدروز هو تاريخ الاسلام، والفصل قرار خاطئ وخطر.

فكرة ثالثة طرحها قبل نحو عشرة أعوام مغتربون دروز في اميركا مفادها فتح الدعوة الدرزية على صفحات الانترنت بحيث يتوافر الاطلاع عليها للعامة وليس فقط لأبنائها المكلفين، فلم يشجّع جنبلاط هذه الفكرة أيضاً.

ربما جنبلاط كان يعتقد بحسب المصادر عينها أنّ المختارة بنت دفاعات دولية وداخلية لبنانية قادرة على حماية الدروز، وربما كان مُحقاً عندما رفض جعل الدروز حالة خارج الاسلام وذلك لأسباب براغماتية وبعيدة النظر في استشراف تاريخ المنطقة، لكنّ الدروز اليوم يحتاجون في مواجهة أزمات الوجود في المنطقة، لإعادة التجمّع ضمن أكثر من مرجعية متضافرة.