تسقط المبادرات والوساطات السياسية الواحدة تلوَ الأخرى، وبات الوضع اللبناني غير قابل لأيّ تسوية تطبخ على نار هادئة أو باتفاق بين الأفرقاء السياسيين المتخاصمين العاجزين حتّى الساعة عن الوصول الى حلّ من دون تدخّل خارجي.
يحاول رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط أن يظهر بمظهر الضعيف، غير القادر على المونة على الموحِّدين الدورز في سوريا، وقد قالها بالحرف الواحد: «لم أستطع إقناع الدورز في السويداء بالإنتفاضة على النظام والإلتحاق بالثورة السوريّة».
ومن جهة ثانية، يصرّ جنبلاط ويبدي حرصاً شديداً على صَوْغ تسويات داخلية حتى لو لم تصل مساعيه الى نتيجة حتى الآن، وقدّ كثّف إتصالاته خوفاً من إنفجار الوضع وضياع اللبنانيين عموماً والدروز خصوصاً في لعبة الحرب الكبرى في المنطقة.
لا يملك جنبلاط القدرة على مواجهة «حزب الله»، وهو لا يرغب بالدخول في مثل هذه المواجهة على رغم معاداته محور الممانعة الممتد من الضاحية الجنوبية مروراً بدمشق وصولاً الى طهران، ومن جهة اخرى أعطت زيارته الى المملكة العربية السعودية ولقاؤه العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزير جواً من الارتياح والطمأنينة للزعامة الجنبلاطية التي ترى في الإمتدادات العربية والعلاقات الإقليمية متنفساً لها يعوّض الفارق الديموغرافي مع بقية المكوّنات الداخلية.
قد لا يمانع جنبلاط في وصول رئيس تكتل «التغيير والاصلاح» النائب ميشال عون الى سدّة الرئاسة مع أنه من أكثر السياسيين حساسيةً على حكم العسكر، وهذه الحساسية ورثها من والده كمال. ولن يقف عائقاً أمام تبوُّء رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع سدّة الرئاسة على رغم إعتباره مراراً وتكراراً أنّ جعجع هو الوريث الشرعي لليمين المسيحي ولما تبقّى من المارونية السياسية، وهذا يسبب لجنبلاط حساسية إضافية وورثها أيضاً من والده كمال.
يعرف جنبلاط جيداً أنّ وصول عون وجعجع أو أيّ شخصيّة مارونية أخرى الى سدّة الرئاسة يخضع للموازين الإقليمية في المنطقة والتي لا يمكنه معارضتها مثل بقية السياسيين اللبنانيين، لكنه يقرأ في الأفق أنْ لا أمل في إجراء الانتخابات الرئاسية حالياً، وأنّ الستاتيكو القائم سيبقى على حاله من دون تغيير يُذكر، وكلّ ما يحصل في سوريا هو إستكمال لمسلسل الحرب الطويل، والتي أربك دخول الروس فيها جنبلاط وأطرافاً لبنانية عدة، لكنّ الجميع إستوعب الضربة، فحلفاء الروس رأوا فيها نصراً سريعاً، فلم يأتِ هذا النصر بل زادت خسائرهم البشرية، فيما يستعدّ الخصوم لشنّ هجوم مضاد إستكمالاً لمخطط إسقاط نظام الأسد.
المنطقة كلها تُرسم من جديد، سوريا تهتزّ وتشتعل، مصر تُسقط الرؤساء ولا تعرف الإستقرار حتّى الآن، العراق الذي كان يملك أقوى الجيوش العربية، يتفتت، الإتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة الأميركيّة يوقّع وينهي خلافاً ونزاعاً إستمرّ منذ إنتصار الثورة الإسلامية في طهران، وأمام كلّ هذا المشهد والتغيّرات الجذريّة وتبدّل الرؤوساء وإنهيار الأنظمة العربية التي لطالما جاهر البيت الجنبلاطي بمعاداتها، يبقى وليد جنبلاط مُمسِكاً بطائفته بقبضة من حديد، ولا يستطع أحدٌ من ابناء الطائفة الاعتراض على زعامته، أو محاولة هزّها، خوفاً من البديل، أو من فقدان المقعد المخصص لها على طاولة الكبار في لبنان والمنطقة.
تشكل الحالة الجنبلاطيّة نموذجاً ومثالاً يؤكد أنّ التغيّرات والإنتصارات في المنطقة لن تؤثّر في الأحجام الداخلية وقوّة الزعماء داخل طوائفهم، لأنّ الصيغة اللبنانية تحفظ للجميع حقّه بالمشاركة وتعطي حقّ النقض «الفيتو» على رغم مرور مراحل تستفرد فيها طائفة بالقرار الوطني لكنها في النهاية تصطدم بالواقع اللبناني المعقّد والذي لا يقبل الآحاديّة. ومَن يراهن على الطائرات الروسيّة أو أيّ قوّة أخرى للإنقضاض على المكوّن الآخر وتتويج النصر لمشروعه فهوّ مخطئ.
فلبنان لن يتغيّر ولم يمرّ به الربيع العربي الذي دفع جنبلاط منذ إنطلاقته الى القول إنه سيتخلّى عن رئاسة الحزب «التقدمي الإشتراكي»، فمرّت السنوات وبقي جنبلاط رئيس الإشتراكيين، لذلك، فالشعب الذي لم تدفعه أزمة النفايات الى الثورة على الواقع لن تؤثر في انتمائه السياسي كلّ طائرات العالم ودباباته.