في الليالي الظلماء، يصبح كل بصيص ضوء، كل نسمة هواء، كل نفحة أمل، كل شعاع يوحي بالسلم والسلامة وباستمرار الوجود وأنفاس الحياة، عطاء ومنحة من الله عز وجل، تسهم في ردّ الروح إلى أجساد تكاد أن تفقدها، تماما كما تسهم في رد الحياة إلى وطن بات يتحسس بكثير من القلق والتحسب، بقايا الأنفاس التي ما زالت تمده بالحياة.
في الليالي الظلماء، يبقى لهذا الوطن، بقية من رجال ما زالوا يُضيئون في سمائه، بعد أن ملأت وجوده معالم الأسى والتخوف والألم، تماما كما هي تملأ بعض زوايا هذه المنطقة المنكوبة، بالحكمة والرؤية بعيدة المدى، والرأي الرصين الذي يتحكم العقل الراجح والتوجه الوطني الأصيل، بخيوط وتوجهات وتوجيهات هذه البقية الباقية من القادة المتمرسين.
من هؤلاء دون شك الزعيم الوطني وليد جنبلاط، الذي يبرز اسمه ورأيه وفعله وأثره في هذه الأيام العصيبة التي فاجأتنا مع الأسف الشديد، بمجزرة قرية «قلب لوزة» التي ذهب ضحيتها، عشرات الشهداء من اخوتنا في الوطن والعروبة والتاريخ الوطني الأصيل، من دروز سوريا الذين لعبوا في الحياة الوطنية السورية، دورا مشهودا، كان له أثره البالغ في تحقيق استقلال ذلك البلد الشقيق وترسيخ أسسه كدولة ناشئة عرفت مع الوقت بالصفة التي أطلقت عليها بأنها قلب العروبة النابض، ولن ينسى السوريون ولن ينسى العرب معهم وفي طليعتهم اللبنانيون، دور سلطان باشا الأطرش في هذا الخضم التاريخي الذي أسهم في خلق وحدة وطنية صلبة، بعيدة عن الخزعبلات الطائفية التي نشهدها في هذه الأيام، دون أن ننسى أن سوريا قد أفرزت في ذلك الزمان العريق والأصيل، كبارا من كل الطوائف، ومن بينهم رئيس وزراء سوريا آنذاك المرحوم فارس الخوري، المسيحي الأصيل الذي تربطه صلة قرابة وعلاقة ومودة، بكثير من العائلات اللبنانية، مذكرين بأن هذا الزعيم الفذ، قد تبوّأ إلى جانب منصبه كرئيس للوزراء، منصب وزير الأوقاف، متعمدا أن يكون مسؤولا عن هذا الموقع الوزاري الخاص بالمسلمين وأوقافهم، وقد تقبله السوريون آنذاك، بكثير من الترحيب، فكان وزيرا مسيحيا ناجحا للأوقاف الإسلامية، ورمزا لوحدة الوطن بكل جذوره ومكوناته وآفاقه الممثلة للعقيدة الإسلامية الحقيقية القائمة على فيض من التسامح والإنفتاح والتلاقي الصادق ما بين إبناء الوطن الواحد بكل جهاتهم وفئاتهم وانتماءاتهم.
نقول ذلك، لتعود بنا الايام إلى مراحل الإنحطاط التي باتت هذه المنطقة تعيشها بكل أسف من خلال بعض الفئات المدسوسة والمنغمسة في التآمر على سلامة أوضاعها وفكرها وتوجهاتها الأصيلة التي يرعاها الدين الإسلامي الحنيف بكل مفاهيمه المحددة والواضحة في القرآن الكريم والسنة والسيرة النبوية، دون الإلتفات إلى كل هذا التحريف والتخريف الذي يحاول أن يصور الإسلام والمسلمين على غير حقيقتهم الحضارية والإنسانية الرائدة، والتي دفعت الغرب، وفي مقدمته الأمبراطور الفرنسي نابوليون إلى وضع تشريعاته وقوانينه الحديثة التي ما زال معظمها سارياً حتى الآن، مستأنسا ومعتمدا على كثير من الأصول التشريعية والقانونية التي اعتمدها الدين الإسلامي وشرعه، وطبقتها الإجتهادات الإسلامية من خلال أئمة وقضاة أجلاء، حفل بهم التاريخ الإسلامي، على مرّ العصور، فكانت الفتاوى التشريعية والقانونية الإسلامية، باطاراتها العامة وببعض من تفاصيلها الدقيقة، نبراسا أضاء للحضارة الحديثة، كثيرا من أسسها وقواعدها القانونية، وقد عدنا إليها في العالم العربي والإسلامي و«استلهمناها» لأنفسنا، وهي في الكثير من إطاراتها وقواعدها تعود إلينا، لنجد مع الوقت أن كثيرا من الخلل، قد أدخلته فيها، بعض التوجهات الإسلامية المتشددة والعائدة إلى ظلامية الماضي الجاهلي والتخلف الإنساني والحضاري، كما عاونتها في ذلك مؤامرات شعوبية معروفة حاولت نسف الأسس الإسلامية العفيفة والنظيمة من خلال هذه التوجهات السوداء، والتي فعلت فعلها في خبايا الزمن، وعلى مر العصور، بكثير من التخفي والتلطي والخبث، وفعلت فعلها كذلك، في وضع الأسافين الضارة والقاتلة في جسم هذه الأمة البريئة من كل هذا التخلف الذي يحاول الكثيرون إلصاقه بالعقيدة الإسلامية، خاصة وأن الإسلام كما هو معروف يرتكز إلى كلمة السلام، والسلام عليكم، هي تحية المسلم الحقيقي لجميع الناس على مر العصور والأجيال، وبكل جهاتهم وفئاتهم وانتماءاتهم الدينية.
وتجيؤنا اليوم جملة من الإرتباطات المشبوهة التي تستمر في عملية التلطي والإختباء بالرداء الإسلامي، وآخرها تلك المجزرة التي قامت بها فئة ضالة ومضللة في قرية « قلب لوزة » ، كائناً ما كان التبرير الذي تتخذه لنفسها، فهو تبرير قاتل وجاهل ومرفوض شكلا وأساسا، وهو تصرف تآمري بحت يحاول أن يجر الإنتصارات المهمة التي حققتها الثورة الشعبية السورية، إلى جحور النظام السوري وغرفه السوداء، بعد أن سببت سياساته وانتهاكاته وأعمال القتل والإبادة الجماعية التي انتهجها وما يزال، في حق الشعب السوري، كل هذه المآسي التي يعاني منها إخوتنا السوريون والتي سبق لنا نحن اللبنانيين أن عانينا من الكثير الوفير من «أفضالها» المتمثلة بجرائمها وتحكماتها برقاب اللبنانيين، ومما لا شك فيه أن لهذا النظام الذي قتل من أبناء شعبه آلافاً مؤلفة من المواطنين، ناهزت الثلاثماية ألف شهيد، هو شريك في ما قد حصل في قرية «قلب لوزة»، خاصة بعد أن سحب جيشه وعناصره التشبيحية من مناطق المأساة، تاركا للجهلة والقتلة مجال التفلت والتآمر من خلال خلق ظروف طارئة لم يسمح الوقت بمعالجتها ومداواتها، فحصلت المجزرة، وحلت المأساة وهي قبل أن تكون فاجعة مواطنين مسالمين طاولهم الظلم والقتل، هي في الواقع فاجعة وطن جريح، ما زالت الأيدي المجرمة والمتآمرة تتلاعب به وبمصيره كما تشاء.
ما سلف، قد أوردناه للإشادة بوعي المواطنين اللبنانيين الذين واجهوا المؤامرة التي تحاول بشتى الوسائل المؤسفة أن تجر بعضا من ذيولها إلى لبنان. كما أوردناه لنشيد بموقف الزعماء اللبنانيين وفي طليعتهم دولة الرؤساء تمام سلام والشيخ سعد الحريري وفؤاد السنيورة وشريحة واسعة من القادة اللبنانيين، وقد أوردناه على وجه الخصوص للإشادة بدور الزعيم الوطني الكبير وليد جنبلاط الذي يملك لحسن الحظ، بوصلة تلقائية طبيعية، تجره في الغالب إلى المواقع والمواقف السليمة والصادقة والمخلصة التي تفرضها الأحداث الطارئة عليه وعلى الوطن. وفي أغلب الأحوال، أثبت هذا الرجل أن توجهاته وتوجيهاته وجهوده الحثيثة تصب في صلب المصلحة القومية والوطنية العليا، كما أثبت أنه زعيم درزي بامتياز واضح، فهو يعي حقيقة الوضع الدرزي حيثما كان، ويعلم أنه يقتضي أن يكون في طليعة الأدوار القومية والوطنية جميعا، من هنا كان وعيه المسبق لكل المطبات الحاصلة والمحتملة والمتوقعة التي صادفت الجماعة التي يقودها بكل العناية والدراية والمسؤولية الحقة والصادقة. من هنا كان وليد جنبلاط، كما كان قبله الزعيم الوطني كمال جنبلاط، زعيما وطنيا شاملا لم تفلح التطورات السلبية والإنتكاسات والإعتبارات الضيقة في جرّه بعيدا عن هذا الدور المضيء. وها هو اليوم بالرغم من التعقيدات المحلية والإقليمية لأحداث سوريا الأخيرة، يمسك بمقاليد القيادة بكل الحزم والعزم والشعور بالمسؤولية التاريخية التي ألقتها الظروف على عاتقه وعلى موقفه القيادي الرائد. هذا الرجل الإستثنائي، لم يأبه في ذلك لأية تفاصيل سلبية، محلية أو إقليمية يمكن أن تشده إلى الوراء وإلى الهيجان المتفلت، وإلى توريط البلاد والعباد من حوله بكل دواعي الأذى والمخاطر. أمسك بالمقود ونقول للمركبة التي يقودها والتي تتلاعب بها ظروف هذه الأيام القاسية برياحها العاصفة ونفحاتها السامة: سيري فعين الله ترعاك، وهكذا كان.