IMLebanon

عباءة جنبلاط والدفاع عن “اتفاق الطائف”

 

أرخى الحادث الذي شهدته منطقة البساتين في جبل لبنان بظله على الأوضاع العامة في بلدٍ يشهد تأزماً لا ينفصل عن الأحوال التي تعيشها المنطقة، خصوصاً وأن للواقع صلة بالامتداد الذي تشكله طائفة الموحدين الدروز في كل من لبنان وسورية، وصولاً إلى فلسطين المحتلة، وأن الموقف من النظام السوري يقع في صلب الاستقطاب بين الحالة الجنبلاطية من جهة، والجماعات التي تتبع لسورية في الجبل من جهة ثانية، وأن الشابين اللذين قُتلا في الحادثة سبق وأن شاركا في القتال في سورية إلى جانب النظام. وأتت الحادثة على خلفية زيارة وزير الخارجية جبران باسيل، صهر رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إلى منطقة عاليه، وسبقها كم من الخطابات التي اعتبرها المواطنون “استفزازية”.

 

تحكم جبل لبنان هذه الأيام معادلتان لا تنفصلان عن بعضهما البعض، واحدة هي تكرار للمشهد السياسي بشكل عام، إذ يحدث الموقف من النظام السوري وتبعاته فرزاً سياسياً يلتحق بالواقع الإقليمي، والثانية المسألة الداخلية الجبل – لبنانية والتي تتعلّق بالعلاقة المسيحية الدرزية وموقع الدروز في النظام والتوازن الدقيق للعلاقات بين الأطراف.

 

ولّدت التحولات السياسية التي جرت في لبنان، عقب انتخاب العماد ميشال عون رئيساً وتحالف تياره مع خصوم وليد جنبلاط في الانتخابات، حساسيّات جبل – لبنانية، اعتاد لبنان على معايشة فصولها في كل الحقبات التاريخية الماضية التي سبقت توقيع “اتفاق الطائف”، وطي صفحة الحرب الأهلية، وصولاً إلى تحقيق المصالحة في عام 2001.

 

ومنذ وقّع العماد عون تفاهمه مع “حزب الله” في عام 2006، بدأ يسلك منهجاً يتعلّق بترجيح المنحى الشعبي والعددي الذي يُكسبه إيّاه هذا التحالف. وطالب بالاعتماد على الاستفتاءات في بعض القضايا، وبانتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب، وبالقانون النسبي في الانتخابات النيابية.

 

يُضفي التحالف بين أكبر قوتين على الساحتين المسيحية والشيعية، ثقة فائضة عند فريق رئيس الجمهورية. ثقة يرتكز إليها في إعادة ما يسميه “الحقوق” التي خسرها المسيحيون نتيجة إقصاء قياداتهم من السلطة أثناء حقبة الوصاية، وتُخوّله إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل “الطائف”. وجراء هذه المصلحة الاستراتيجية للطرفين، تتحدّد تلقائياً وجهة هذا التحدي في التصويب على كل من الدروز والسنة، الذين ضمت كتلهم النيابية نواباً مسيحيين منذ مطلع التسعينات. وهذا ما عاد وناله فريق عون في قانون الانتخاب الذي قام على قاعدة النسبية، وأتاح ضرب “اتفاق الطائف” وتوازناته، وخوّل جبران باسيل الدخول إلى الكثير من المناطق وحيازة أكبر كتلة نيابية في البرلمان اللبناني في انتخابات العام 2018.

 

لكن دائرة التقليد عند الزعماء الذين يتنافسون في جبل لبنان، دارت على حسابات الداخل لكسر التوازن في الساحة الدرزية أيضاً، وليس لديهم أفضل من هذا التوقيت لتوظيف المناسبة التي يخسر فيها جنبلاط رهانه في سورية، وتتشكل برعاية “حزب الله” معارضة درزية في ظل تضعضع التحالف القوي بين الدروز والسنة نتيجة التسوية التي عقدها ميشال عون وسعد الحريري. هذا الاختراق للموقف، يتيح لجبران باسيل قيادة الفريق الدرزي المُعارض لجنبلاط، وإعطائه في الدولة ما لم يكن يحلم به. والأخطر من ذلك كلّه، اندماج المعادلتين الإقليمية والجبل – لبنانية في استراتيجيا واحدة عنوانها: التوطئة لتعويم نظام الأسد في التسوية الكبيرة التي انطلقت من لقاء القدس ومن الغرام الروسي – الإسرائيلي في هذه المرحلة، وصولاً إلى لحظة التحوّل في ساحة قبرشمون التي قام على أثرها الناس بالوقوف في وجه تمدّد باسيل ومحاولاته الجامحة لتخريب المصالحة التي أنجزوها في الجبل. والحقيقة أن لتجاوز الخصوصية في جبل لبنان كلفة على عهد العماد عون في حال مشى وراء صهره في هذه المقاربة، التي من شأنها أن تُعيد انكشاف الأوضاع الداخلية. سبق لعون أن خاض تجربة شبيهة في عام 1983 معتمداً على المقاربة الأمنية في التعاطي مع خصوصية الجبل، ولم يُوفّق حينها. إذ أن لبنان بلد لا يعيش على معادلات عددية أو تمثيلية، على رغم أن الديمقراطية بشكلها الحالي توحي بأن التمثيل البرلماني يقدم لنموذج حكم متوازن. إلا أن الأهم من هذا الإيقاع العددي، هو موضوعة التعايش وضروراتها التي يعكسها الواقع الوجداني والوعي العميق للفئات التقليدية في لبنان.

 

في السبعينات، تزعّم كمال جنبلاط “الحركة الوطنية” التي امتدت على 80 بالمئة من الأراضي اللبنانية وكان لديه نائبان في المجلس النيابي! تجاوز كل هذه الاعتبارات، أوقع باسيل في شَرَك نَصَبَه لنفسه في عمق الجبل وأدخل عهد رئاسة ميشال عون في لحظة اختبار جدّية.

 

هذا الإنذار المبكر للتحولات، إنما يصنعه التوازن الدقيق في جبل امتدت إماراته القديمة من حلب حتى حيفا. والسؤال هو: كيف لهذا الوصل في الجغرافيا والديموغرافيا أن ينقطع في لحظة إعادة رسم الخرائط والديموغرافيا في كل المنطقة؟ فالدروز في جبل لبنان وجبل العرب والجليل والجولان، لا تتحدّد قضيتهم في مكان بذاته، إنما في هذا الاتصال الذي ترمز إليه اليوم العباءة التي لبسها وليد جنبلاط في عام 1977 عقب اغتيال والده، في مظلومية عاد وعاش تجربتها الشعب السوري بأكمله منذ العام 2011. وهذه العباءة التي تختصر الوعي العميق لجبل لبنان بكل مكوناته، استحال تخطيها في كل المفاصل التي شهدتها جولات الحرب السورية.

 

لكن ليس على جنبلاط اليوم، وهو الذي بيده التقاط اللحظة المناسبة لقيادة التحول في لبنان، أن يتردد في معركة تتعلّق بالوجود السياسي لشعبه إلى هذا الحد. وقد أكسبه موقفه الأخير بُعداً وطنياً يُذكّر بوقوفه مع “نداء المطارنة الموارنة” في عام 2000 الذي حقق امتداداً وطنياً قطفه في عام 2005 ويجدده منذ اتخذ قرار وقف اندفاعة باسيل في تخريب “الطائف”.

 

أهم ما يُقرأ في الأحداث الأخيرة، هو أن الناس أعادت إمساكها بزمام المبادرة في مواجهة تخريب باسيل لـ “اتفاق الطائف” والمصالحة الوطنية التي تلته، وإقحام أنفه في المسألة الدرزية. وي هكذا لحظات، تتعطل ماكينة وليد جنبلاط التسووية أو تلك التي تأخذها بالحسنى، في مقابل تنامي المعادلة العميقة عند أبناء الجبل والتي تولي الإمرة لأحقية الوجود. اليوم العباءة التي ورثها وليد جنبلاط عن والده، والحِمل الكبير الذي اعتلته تلك العباءة، هو الذي يتكلّم!