Site icon IMLebanon

قفزة إلى المستقبل بطريق الماضي

 

الأمر الملكي الأخير، بإعطاء المرأة السعودية حق قيادة السيارة هو وجهة سياسية واجتماعية وليس أمراً وحسب. والوجهة هي القفز إلى الماضي القريب.

قبل فترة كان السعوديون ممن أبهجتهم اليوم القرارات الملكية وستبهجهم القرارات المقبلة، يتبادلون عبر تطبيق «الواتس أب» صوراً عن هذا الوراء قبل خمسة عقود. صور فندق «العطاس أويسس» في مدينة جدة، التي تعود بحسب المتداول إلى العام 1968. وفيها شبان وشابات ويستمتعون بسحر البحر الأحمر في أحد أيام الصيف!

هذه هي الرغبة تماماً بالقفز نصف قرن إلى الماضي لاستعادة ومضة من ومضاته، إلى هذا الزمن الذي بترت سياقاته الاجتماعية والدينية واستحوذت عليه انقلابات هبّت من جهات الدين والسياسة والدولة. نعم! الدين والسياسة والدولة، وقد عبّر عن ذلك بشجاعة استثنائية ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في تصريحات لصحيفة «واشنطن بوست» وأخرى لمجلة «فورين أفيرز». للأولى قال: «أنا شاب، وسبعون في المائة من مواطنينا هم من الشباب. نحن لا نريد أن نضيّع حياتنا في هذه الدوامة التي كنا فيها طوال الـ30 سنة الماضية بسبب الثورة الخمينية، التي سببت التطرف والإرهاب. نحن نريد أن ننهي هذه الحقبة الآن. نحن نريد – كما يريد الشعب السعودي – الاستمتاع بالأيام القادمة، والتركيز على تطوير مجتمعنا، وتطوير أنفسنا كأفراد وأُسر، وفي الوقت نفسه الحفاظ على ديننا وتقاليدنا. نحن لن نستمر في العيش في حقبة ما بعد عام 1979. لقد ولى زمان تلك الحقبة».

ولـ«فورين أفيرز» ذهب أبعد بقوله: «ارتكبنا أخطاء بالتعاون مع واشنطن في تجنيد الجهاديين لمكافحة الشيوعية خلال الحرب الباردة، في حين أن المملكة كانت ضحية للإرهاب المنظم والممنهج طوال الفترة التي تلت سقوط الاتحاد السوفياتي»!

الثابت في تشخيص القيمين على خطة التحول الاجتماعي والسياسي في المملكة أن نقطة الفصل التي بترت سياقات التطور في السعودية، وصادرت نحو أربعة عقود من حياة المملكة وأهلها هي الثورة الخمينية، وإنشاؤها أول دولة دينية مذهبية في المنطقة، عبر مشروع آيديولوجي عابر للحدود. يقف شاهداً على هذه العقود المهدورة، عهد الراحل الملك فهد بن عبد العزيز الذي كان مهجوساً وهو في ولاية عهد أخيه الملك خالد، بالنهوض ببلاده ومضاعفة انفتاحها تأسيساً على عهود من سبقوه، قبل أن تباغته وتباغت السعوديين لحظة جهيمان العتيبي، الذي حاول تكرار الثورة الإيرانية المسلحة فاحتل الحرم ومكة، وفرض على الجميع، حتى بعد قتله، عاصفة تبدل في أولويات الأمن والرفاه والتطوير الاجتماعي والسياسي!

الملك سلمان بن عبد العزيز يقول اليوم هذا تاريخ وراءنا. ووراءنا أيضاً تاريخ أكبر من التسامح والانفتاح وعشق الحياة وسماحة القيم والتقاليد، وهو ما ينبغي أن نختار منه لنؤسس مستقبلاً يليق بالسعوديين.

لن يقف الأمر عند قيادة السيارة. قبله عُينت رانيا محمود نشار رئيساً تنفيذياً لمجموعة سامبا المالية بعد أيام من انتخاب عضو مجلس إدارة شركة السوق السعودية (تداول) سارة السحيمي رئيساً للشركة، وهما أرفع منصبين ماليين تحتلهما نساء سعوديات. وكان مجلس الوزراء السعودي وافق على تعيين الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان وكيلاً للرئيس للقسم النسائي في الهيئة العامة للرياضة، وهذا هو أول منصب رفيع تتقلده سيدة في هيئة الرياضة. وقبل أشهر عُيّنت سيدة الأعمال السعودية هند الزاهد كأول امرأة في منصب المديرة التنفيذية لمطار الدمام السعودي، في حين عُينت، قبل أيام فاطمة سالم باعشن متحدثة باسم السفارة السعودية في واشنطن لتكون أول سيدة سعودية في ذلك المنصب.

فالمسألة ليست حملة علاقات عامة، بل هو قرار سعودي كبير وعميق بفتح الأبواب أمام هذا المجتمع الفتي والديناميكي، وقرار باستنهاض طاقاته الكامنة في واحدة من أدق اللحظات التي تمرّ بها المملكة بشكل خاص والمنطقة بشكل عام.

إنه صراع على الهوية الوطنية السعودية من جهة، وصراع على روح الإسلام ودوره في الحياة العامة من جهة أخرى، بعد عقود من مصادرة تيارات التطرف النطق باسم الإسلام. صراع لتحرير الحياة العامة وعمل الدولة من مدارس التعصب الكثيرة التي تنتحل صفة الصحوة، وتغازل الإرهاب ويغازلها، إما خدمة لمشروع الإرهاب نفسه أو استخداماً للإرهاب في سياق الصراع الإقليمي الأكبر والأوسع، والذي منه العمل المخابراتي الممنهج بغية ضرب صورة المملكة.

لسنا هنا إزاء تقديم إسلام مقابل إسلام، ولا إزاء سجال ديني حول الدين وفي الدين نفسه، بل إزاء معركة قوامها تقديم دولة المواطنة في مقابل مجموعات المغالاة والتشدد. في دولة المواطنة، المرأة السعودية مواطنة سعودية، قبل أي شيء وبعد أي شيء، وحقوقها في الدولة، ومسؤولياتها فيها تنبع من هذه الصفة أولاً وأخيراً.

نماذج المرأة السعودية التي رأيناها وسنراها، تبشر بالخير، للسعودية ولاستقرارها ولنهوضها، وهو استقرار ونهوض لنا جميعاً نحن الذين نعيش في هذه البقعة المتفجرة في العالم والموصوفة بالدول المنهارة.

المرأة السعودية تستحق. صار بيدها المفتاح، وكم سيكون جميلاً أن تمضي بنا… قدماً.