ليست هذه المرة الأولى التي تجرى فيها محاولة بناء وطنية لبنانية على عجل. في العقود الثلاثة الماضية، حاولت السلطات مرتين على الأقل جمع شتات اللبنانيين حول صيغ مرتجلة من الهوية الوطنية.
المرة الأولى كانت في الأشهر التي أعقبت الاجتياح الإسرائيلي في 1982. بدا في تلك الأيام أن نصراً مؤزراً قد تحقق وأن المعسكر المسلم – اليساري المتحالف مع منظمة التحرير الفلسطينية قد سُحق تحت جنازير الدبابات ولن تقوم له قائمة. ولم يصعب على المنتصرين العثور على أنصار وأتباع لهم في الطوائف المهزومة، فيما استعيدت استعادة كثيفة مقولات «الحضارة» و «السيادة» و «التفوق» التي سادت بين الاستقلال وبين اندلاع الحرب الأهلية، لكن في ظل سلطة استندت شرعيتها الى الاحتلال الإسرائيلي والبوارج الأميركية.
وهْم الخروج من الحرب الأهلية باعتبارها لم تكن، سقط في أقل من سنتين وعاد الاقتتال أقوى من السابق وأصرح في طائفيته وفي تكذيبه للدعوات الى «سلام يُدهش العالم».
المحاولة الثانية حصلت بعد اتفاق الطائف. بيد أن نهاية القتال لم تعنِ توقف الحرب. التهميش العنيف للمسيحيين على أيدي أجهزة حافظ الأسد وبموافقة ضمنية من حكام ما بعد الحرب، حال دون إسباغ مضمون تصالحي على الطائف وما واكبه من إعادة إعمار. فظل «السلم الأهلي» من دون لسان أو صوت أو ثقافة، ما خلا شعارات «تلازم المسار والمصير» السوري- اللبناني وتحميل اللاجئين الفلسطينيين مسؤولية الحرب، الى أن انهار البناء الهش مع اغتيال رفيق الحريري.
نشهد هذه الأيام محاولة ثالثة لاجتراح وطنية لبنانية ترث حطام الوطنيات السابقة وتحدد وظيفة جديدة للبنان في منطقته وتصوغ العلاقات الداخلية فيه استناداً الى معطيات لا تختلف كثيراً عن المحاولتين السابقتين ولا تقل عنهما تسرعاً وتحويلاً للمعطى الآني الى مكون دائم للهوية الوطنية. تتأسس المحاولة هذه على إضفاء الشرعية على ما قام به «حزب الله» في جرود بلدة عرسال من طرد لمسلحي «هيئة تحرير الشام» («النصرة»/ تنظيم «القاعدة» الإرهابي) واعتبار العمل في مصلحة لبنان كله. ويتعين علينا التسليم بسذاجة هذا التشخيص من دون التساؤل عن معنى قيام ميليشيا أهلية بعمل الجيش الوطني وعن تبعات هذا العمل من إطباق الحزب على كامل الحياة السياسية واستطراداً الحياة العامة في لبنان. وأن نعلي من شأن تضحيات «المقاومة» التي لا ترى علاقة بين اقتحامها المدن والبلدات السورية من جهة، وردود فعل مسلحي «النصرة» من الجهة المقابلة.
ويفترض أن نسلّم بالخطر الإرهابي والديموغرافي الذي يحمله اللاجئ السوري الى لبنان وعليه، من دون التساؤل عن السبب الذي دفع مئات آلاف السوريين الى المجيء الى بلدنا في المقام الأول. كما يفترض أن نقبل بثالوث «الجيش والشعب والمقاومة» من دون المطالبة بتسليح الجيش وتسليمه وحده مهمات الدفاع، أو إتاحة المجال لـ «الشعب» أن يتحول بأجمعه الى «مقاومة» وتعميم السلاح على الطوائف كلها، تطبيقاً -على الأقل- لمواد الدستور القائلة بالمساواة بين المواطنين.
ولم تتفتق مخيلة بناة الوطنية الجديدة عن حلول لمشكلات لا تهم أبطال المقاومة والتحرير، من نوع كيفية إدارة الدولة ومنع سقوط مؤسساتها تحت وطأة الفساد والتقاسم الطائفي وتدبير الاقتصاد والتعليم والرعاية الصحية. هذه النوافل لا تجد من يتحدث عنها إلا عندما تكون معروضة في بازار المزايدات الطائفية والسياسية. فعلى الجميع الإسراع للقفز الى عربة الوطنية المنطلقة نحو آفاق الانتصارات الوهاجة.