العراق المستقر في دولة تتسع لكل مكوناتها حاجة عربية وإقليمية ودولية. شطب الضلع العراقي من المثلث التركي – العراقي – الإيراني أضعف مناعة الساحة العربية أمام الأدوار غير العربية. لذلك لا بدّ من العراق. لإعادة قدر من التوازن. ولضبط شهيات الأدوار التي تسببت في زعزعة الاستقرار.
عبّرت زيارة رئيس الوزراء حيدر العبادي إلى الرياض عن توق العراق لاستئناف دوره الطبيعي. عبّرت في الوقت نفسه عن الاحتضان السعودي والعربي لهذا التوق. الدعم الأميركي لهذا التوجه كان حاضراً وواضحاً. إطلاق «مجلس التنسيق السعودي – العراقي» يعد بتأسيس العلاقات على قاعدة المصالح المتبادلة والأرقام. الشراكة في الحرب على الإرهاب والتطرف تسهل فتح الأبواب واسعة للتشاور والتعاون.
لا بدّ من العراق. ربما أخطأت أربيل في تقدير الأهمية الاستراتيجية للعراق الموحد والمستقر حين ذهبت بعيداً في الاستفتاء وأشركت المناطق المتنازعة فيه. لهذا جاءتها الرسالة قاسية: القفز من الخريطة ممنوع.
لا يستسيغ العالم القفز من الخرائط. يعتبره مغامرة خطرة. يخشى التلاعب بوحدة الدول وحدودها. لهذا ينصح بالبحث عن حلول داخلها مهما تأخرت ومهما كان الثمن. يفضل متاعب الزواج على الطلاق وأثمانه الباهظة. وعلى رغم ذلك تجرع العالم في العقود الأخيرة تجارب كان يتمنى تفاديها. قفزت أريتريا من الحضن الإثيوبي. وانكفأ جنوب السودان إلى استقلاله وتمزقاته. وتبدّد أفراد العائلة اليوغوسلافية وكأن الماريشال تيتو أرغمهم على العيش تحت سقف واحد. واختارت تشيكوسلوفاكيا أسلوب الطلاق المخملي. وكان مسعود بارزاني يأمل في طلاق من هذا النوع، متناسيا أنه لا يقيم في أوروبا، وأنه ليس من عادة أهل الشرق الأوسط التخاطب بالمخمل.
راودتني هذه الأفكار الشهر الماضي وأنا أجول في مدينة كركوك. المدينة التي تحولت عقدة في حياة العراق في العقود الماضية، والتي تسبب التنازع عليها بأكثر من حرب وأكثر من مأساة. اختصرت كركوك مأزق الأكراد والعراق معاً. لا يستطيع الأكراد نسيانها أو التنازل عنها. ولا تستطيع بغداد السماح لها بالفرار من الخريطة لتكون نواة دولة كردية مستقلة. وفي العقود الماضية اختلفت الدول المجاورة للعراق على كل شيء باستثناء منع الأكراد من الفرار من الخرائط التي وزعوا عليها قبل مائة عام. لا قدرة للمنطقة على احتمال تمزيق الخرائط.
التمرد على التاريخ أسهل بكثير من التمرد على الجغرافيا. التاريخ روايات وحكايات وثارات يمكن تلوينها والتحايل عليها وإعادة تفسيرها. الجغرافيا ملامح قاسية وثابتة مبرمة الأحكام. وتزداد صرامة الجغرافيا حين يقيم المتمرد بين قوميات وإثنيات ولغات ودول هي في النهاية وريثة إمبراطوريات. دول تعامل خرائطها كثياب ضيقة فكيف توافق على خسارة المزيد من أرضها وثرواتها وهيبتها؟
القفز من الخريطة ممنوع خصوصاً في هذا الجزء من العالم حيث تتجاور براميل البارود مع آبار كثيرة. هذا يفسر الدعم الدولي والإقليمي الذي حصلت عليه الحكومة العراقية في عملية استرجاع كركوك والمناطق المتنازع عليها. واضح أن ثمة رهاناً دولياً وإقليمياً على ضرورة ترميم الدولة العراقية. ترميم حضورها الكامل داخل الخريطة. هناك شعور بأن عودة العراق دولة طبيعية وفاعلة حاجة إقليمية ودولية لإعادة قدر من التوازن بين مكونات الشرق الأوسط، خصوصاً بعدما ذهبت إيران بعيداً في الانقلاب على الحدود الدولية وتغيير عواصم ومواقع دولها.
واجهت حكومة العبادي حتى الساعة امتحانين كبيرين هما استرجاع الموصل واسترجاع كركوك. والامتحانان مختلفان تماماً. في الأول لم يكن هناك من حل غير اقتلاع تنظيم داعش والقضاء على الإرهابيين المحليين ومن معهم من المقاتلين الجوالين. وكانت قوات البيشمركة شريكة فاعلة في هذه المعركة.
استرجاع كركوك لا يشبه أبداً استرجاع الموصل. إنه نزاع قديم بين أبناء الخريطة نفسها، والنجاح فيه يجب ألا يتحول أبداً إلى هزيمة لمكون تدفعه إلى العودة للعيش مع المرارات والكمون في انتظار فرصة للثأر. ربما لهذا السبب يضاعف الدعم العربي والدولي مسؤولية حكومة العبادي، فالنجاح العراقي الحقيقي سيكون في استعادة الأكراد لا في استعادة كركوك وحدها.
واستعادة الأكراد تبدأ بالعودة إلى نصوص الدستور وروحه. أي بالعودة إلى منطق الدولة والمؤسسات والشراكة الوطنية. وليس سراً أن ما يحدث في العراق الآن ما كان ليحدث لو أن الحكومات المتعاقبة التزمت بما جاء في المادة 140 من الدستور العراقي، والتي حددت آلية لمعالجة مشكلة المناطق المتنازع عليها.
بعثت حكومة العبادي برسالة قاطعة إلى أربيل مفادها أن القفز من الخريطة ممنوع. لكن المطلوب فعلاً هو أن ينتصر مشروع الدولة في العراق لا أن يهزم الأكراد فيه. ولعلها فرصة سانحة ليقظة عراقية شاملة تتيح تبادل القدر الضروري من التنازلات ليشعر الشيعي والسني والكردي بإمكان العيش مجدداً في دولة تتسع للجميع. دولة القانون والمؤسسات. دولة يصنع قرارها في بغداد لصالح كل مواطنيها. دولة سيدة تساهم في إعادة التوازن إلى هذا الجزء الحساس من العالم.
القفز من الخريطة ممنوع. تلقى أكراد العراق رسالة قاسية. تلقتها أيضاً كل جماعة أو أقلية تحلم بملاذ آمن يشبهها وعلى قاعدة الاستقالة من الخريطة التي تنتمي إليها.