Site icon IMLebanon

القفز فوق الأستانة

إلتأم بالأمس مؤتمر الأستانة على إيقاع الإشتباكات المستمرة في وادي بردى وفي ريف حمص ومع محاولات قوات النظام تسجيل مكاسب ميدانية. هي المرة الأولى التي يجتمع فيها وجهاً لوجه وفدا المعارضة السورية والنظام بالرغم من تأخّر الجلسة الإفتتاحية لأكثر من أربعين دقيقة لأسباب بروتوكولية، ربما تكون عدم قبول وفد النظام بمبدأ المفاوضات المباشرة والإصرار على النموذج الذي كان يجري سابقاً في فيينا وجنيف لإفراغ المؤتمر لاحقاً من مخرجاته وإفشاله.

لم يستسغ الدبلوماسي المكابر، السفير بشّار الجعفري مبدأ التفاوض مع شخصية قيادية ميدانية خرجت من رحم الثورة السورية وليست صنيعة تراكم أيديولوجي فوقي يُصدر الإملاءات ويطبّقها. ردّة الفعل كانت بارزة في أسلوب التخاطب الذي اعتمده الدبلوماسي العريق والذي لم يتضمن سوى عبارات إزدراء وتحقير ليس أقلها تسميّة الوفد المعارض بوفد الجماعات الإرهابية وإتّهامه بالإسفاف وسوء السلوك وعدم الإرتقاء إلى مستوى الحدث. لقد سقط من حساب الدبلوماسي العريق أنّه يفاوض بإسم سلطة مستباحة وجغرافيا مستباحة وسيادة مستباحة وشعب مشرّد في كلّ إصقاع الدنيا، وسقط من حسابه أيضاً أنّ من يفاوضه يطالب بخروج الميليشيات من الجغرافيا المستباحة، وبوقف إطلاق النار على الشعب المستباح كشرط لمباشرة العملية السياسية لعودة الشعب المشرّد ولاستعادة السلطة المستباحة.

أنت تدرك يا سعادة السفير أنّ الواقعية هي أولى قواعد دبلوماسية التفاوض، وأنّه ليس بإمكانك اجتراح نقاط قوة وهميّة لإعادة المبادرة إلى نظامك. إنّ أقصى ما يمكن فعله هو مزيد من الإختراقات الميدانية لجيشك وحلفائه في وادي بردى وسواها ومزيد من عبارات التحقير التي استخدمتها، ولكن ذلك لن يدفع الوفد المعارض للإنسحاب من المفاوضات. من الواقعية أيضاً أن تعترف يا سعادة السفير أنّ وفد المعارضة الموجود في الأستانة يحظى بالشرعية الدولية ذاتها التي يحظى بها الوفد الذي ترأسه لأنّ المفاوضات تتمّ بموافقة المجتمع الدولي، وأنّ المؤتمر ليس مجالاً لاقتسام السلطة فهدفه هو تثبيت إتّفاقية وقف إطلاق النار والسير بالإجراءات الإنسانية كمقدّمة للسير بالعملية السياسية وفقاً للقرارات الدولية.

ثم وبعد انقضاء حوالي ست سنوات من الحرب، ما هي المقوّمات المتبقيّة للدولة السورية لاتّخاذ القرار وماذا بقي لدى سوريا التي فقدت شعبها وجيشها واقتصادها ودورها لكي تفاوض عليه خارج دائرة النفوذين الروسي والإيراني؟ لقد منحت دمشق لموسكو حق الإستخدام المجاني لقاعدة طرطوس لمدة 49 سنة قابلة للتمديد تلقائياً، بما في ذلك حق نشر 11 سفينة حربية في الميناء الموسّع، من بينها سفن نووية. الإتفاق الذي نُشر على موقع الوثائق الرسمية التابع للكرملين، مطابق للإتفاق الذي وقّعته روسيا مع الحكومة السورية في سبتمبر/ أيلول 2015 ويتناول الوجود العسكري الروسي في قاعدة «حميميم» الجوية دون تحديد سقف زمني، كما تتمتع القاعدة والأملاك المنقولة وغير المنقولة فيها والأراضي التابعة لها والقوات العاملة فيها بحصانة كاملة ولا تخضع للقوانين السورية. هذا بالإضافة إلى توقيع خمس مذكرات تفاهم خلال الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء السوري عماد خميس إلى طهران لتصبح إيران مشغلاً لاتّصالات الهاتف المحمول في سوريا ومستخرجاً للفوسفات، بالإضافة إلى تقديم ألف هكتار لإنشاء مرفأ للنفط والغاز وفقاً لما ذكرته وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية الإيرانية الرسمية.

إنّ اقصى ما يمكن أن يتوصّل إليه مؤتمر الأستانة هو الإتفاق على نص لتثبيت إتفاقية وقف إطلاق النار مع تعهد روسي تركي بالتزام قوات النظام وفصائل المعارضة على أن يُترك موضوع تثبيت آلية فعالة للمراقبة لمؤتمر جنيف المزمع عقده في الثامن من فبراير المقبل. تطمح روسيا للقفز فوق الأستانة والتحوّل إلى راعي دولي جاهز للشراكة مع واشنطن تحت عناوين مكافحة الإرهاب والتطرف الإسلامي، وتحقيق إعتراف دولي بموقعها ودورها وبمكاسبها على الجغرافيا السورية. سقف التضحيات الروسية من أجل ذلك قد يكون مفتوحاً. وتحاول إيران القفز فوق الأستانة ومخاطبة الولايات المتّحدة لمقايضة التزامها بوقف النار وما سيليه من ترتيبات بدور ما في صفقة توزيع النفوذ الإقليمية في كلّ من سوريا والعراق. بينما تبدو تركيا منضبطة وحذرة لتحسين شروطها ضمن حدود الرعاية الأميركية للحالة الكردية. المعارضة السورية التي تبدو مندمجة في العملية التفاوضية تُدرك أنّها كسبت الإعتراف الدولي وأنّ دورها سيتنامى مع تطوّر وقف إطلاق النار ومباشرة المسار السياسي وأنّ شراكتها بالسلطة مرتبطة بموقفها من الفصائل المتطرفة وبالتزامها بمكافحة الإرهاب وهذا ما سبق أن التزمت به.

وحده النظام لا يستطيع القفز فوق الأستانة. مستقبل النظام سيكون الحلقة الأضعف ما بعد الأستانة وعلى امتداد المسار التفاوضي المُرتقب، ونجاح وقف إطلاق النار هو إشارة بدء العدّ التنازلي على حياة ودور النظام في المرحلة الإنتقالية. إنّ المفارقة التي تفرضها الواقعية هي أنّ المعارضة قادرة على التفاوض على ما تبقّى من حياة النظام في حين أنّ النظام لا يمتلك قدرة التفاوض على ما تبقى من عمر المعارضة.

* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات