يوم ٤ حزيران ١٩٨٢ بدأت الحرب الاسرائيلية على لبنان بضرب المدينة الرياضية في بيروت. وبعد يومين من الغارات على بيروت والجنوب بدأ الاجتياح الإسرائيلي للبنان في السادس من حزيران ٨٢ واحتلّ الجنوب والبقاع الغربي، وحوصرت بيروت ودمِّرت وأُفرِغت من أهلها بعد ثلاثة أيام من الغارات الوهمية المتواصلة التي تسببت بالانهيارات العصبية والنفسية، وخرج الجميع من بيروت بحثاً عن الأمان. كثيرة هي التفاصيل التي لم تُكتب ولم تُعرف عن أيام حصار واحتلال بيروت.
تذكّرت كيف ودّع الكثيرون أبو عمار بالدموع والمناديل من على مرفأ بيروت. كان مشهداً يفوق الخيال ولم يكن يتوقعه أحد وهو ان تغادر دولة منظمة التحرير لبنان بعد ان تحكمت بمصيره لسنوات طوال، تاركةً وراءها الآلاف من الروّاد اللبنانيّين ومؤسساتهم في حال من اليأس والضياع.
تذكرت كيف غادرت اسرائيل بيروت المدينة بعد إحراقها وتدميرها والتي شهدت في أيام الاجتياح ما يفوق أيام الحرب العالمية الثانية من ضرب بالفراغية والفوسفورية والانشطارية. وارتكبت المجازر المروعة، بالاضافة الى سبعة سنوات من الدمار والاقتتال والانقسام الداخلي بين عامي ٧٥و٨٢ والذي جعل من بيروت الجامعة والحاضنة بيروت شرقية وأخرى غربية. وتحوّل قلب بيروت النابض بالحياة على مدى عقود الى خطوط تماس وخراب ما بعده خراب.
تذكرتُ كيف جعلت اسرائيل بيروت مدينة مهزومة وعلى كل المستويات، الانسانية والسياسية والاقتصادية والعمرانية والثقافية والفكرية والإعلامية، مفتَّتة مكسورة من يمينها الى يسارها، تاركةً خلفها الفتن والنزاعات. فكانت الانتفاضات والشغب والسرقات والتهجير والإغتيالات، وتصاعدت الطائفية البغضاء وحروب المدن والقرى، من الضاحية الى الجبل الى طرابلس الى زحلة الى دير القمر الى إقليم التفاح إلى حرب التحرير والإلغاء إلى أزقة بيروت وعادت مجدداً خطوط التماس.
تذكرت أيضاً انه بعد الاجتياح كان هناك نقطة ضوء وحيدة في ذلك الظلام الدامس، هي رفيق الحريري الذي جعل الثروة والنجاح في خدمة الناس والوطن، فشكّل عدة فرق للانقاذ الإنساني والعمراني، ورفع الانقاض، وأنقذ المدارس والجامعات والمستشفيات العريقة من الإقفال، وأرسل البعثات العلمية بالآلاف، وسعى الى المصالحات وتقريب المسافات بين الزعماء والطوائف ومعهم أدواتهم من الميليشيات، واستوعب الكثير من نخب اليمين واليسار.
بعد 34 عاماً على الاحتلال الاسرائيلي لبيروت، كيف يتذكّر اللبنانيّون تلك المأساة؟ وماذا عن رفيق الحريري الذي أضاء شمعة في ظلام بيروت دون أن يلعن الظلام أو يذكر مرة واحدة من تسبّب بالخراب والدمار؟ وأسّس لزمن من التسامح والتسويات والانجازات، وتحمّل ورفاقه ظلم الأصدقاء والأعداء، وتعرّض لكلّ أشكال التجريح والقسوة ممّن كانوا السبب في كل ذلك القتل والدمار. واستمر في رفع آثار الاقتتال الداخلي والاحتلال عن بيروت التي تحتضن كل لبنان.
قرأت مقالاً للصديق والمفكّر المصري نبيل عبد الفتاح يتحدث فيه عن آفة النسيان. فتذكرت أنّ اليوم هو الرابع من حزيران، وأننا نسينا أنّ عاصمتنا احتُلَّت ونسينا اننا قتلنا بَعضنَا وسرقنا النوم من عيون الاطفال وسحقنا بأحقادنا أحلام الأجيال، وأمضينا حياتنا نسياناً فوق نسيان. تذكّرتُ الدمار والخراب، وتساءلت ماذا لو بقي ذلك الدمار لكي يذكّرنا بما صنعناه بأنفسنا وبمدينتنا، ولكي يمنعنا من تكرار المأساة الطائفية والمذهبية والقبائلية التقليدية والمدنية والفوقية والميليشياوية التدميرية باسم الإنماء، كما حدث في البلديات، وكيف انتقلنا جميعاً من الشغور الى الخواء في وطن النسيان لبنان.