Site icon IMLebanon

«إجتهادات» في غير محلها الواقعي والدستوري

 

تتوالى على اللبنانيين في هذه الأيام سلسلة من الموجات معظمها الكاسح يجنح إلى التشاؤم ونفض الأيادي والأذهان من أية توقعات إيجابية قد يمن الله عز وجل عليهم بها في لحظات الرضى والقبول الإلهي المرتقب، (كون المنتظر يعلو إلى مرتبة المعجزات التي تتطلب العون الإلهي) وبعضها يميل من وقت لآخر إلى بث بعض الأمل في النفوس المتعبة دون أن تخترقها إلى عقولهم المراقبة للأحداث وتطوراتها في الداخل وفي الخارج بكل حذر وتحسّب.

بعضهم لم يملّ من ضرب رأسه برأس الحكومة، أية حكومة وكائنا من كان رئيسها، مكمّلة بشتى الوسائل مشوار الطعن بالمهلة غير المحددة المعطاة للرئيس المكلف لتشكيلها انطلاقا من الوضع الدستوري الواضح الذي انتجته معاناة اللبنانيين وحروبهم، وتم وضع حدّ له في مؤتمر الطائف، الذي عوّل عليه اللبنانيون لاستعادة وطن، ولحمة وطنية كادتا أن تضيعا لو لم تسارع جملة من «سعاة الخير» إلى عقد ذلك المؤتمر الذي ما زلنا حتى الآن، نتلطّى في ظلاله من هول كل العثرات والمطبات ونتعات الرؤوس الحامية، تجاه هذا الوضع الدستوري الواضح. طالعتنا قبل أيام، مطالعة دستورية لمعالي وزير العدل، المجتهد الدائم في الدفاع عن شؤون العهد ومعاونيه ومرشحيه، ونحن لن نناقش في هذا الصدد مبررات وأسباب وأهداف هذه المطالعة المستندة إلى بعض المباديء الدستورية العامة المنتقاة من بعض المراجع القانونية الغربية التي يمكن مجاراتها أو مناقضتها بأي مطالعة بديلة يمكن أن تُعدّ لأي من الفرقاء السياسيين المتناقضين والمتناهضين، كما يمكن الإستحصال عليها «غب الطلب»، ووفقا للأهواء والأجواء، مع العلم الأكيد بأن نسف وضعٍ دستوري غير قابل للتأويل والإجتهاد، قد تم تكريسه نتيجة لتدارس عميق لصلاحيات الرؤساء الثلاثة في بلد أدى النزاع حولها وعليها «مع جملة من الأسباب الأخرى»، إلى تلك الحرب الضروس التي كادت أن تحيل الجنة اللبنانية إلى جحيم سبق لهيبه ودماره كل حرائق المنطقة المحيطة به، إلى وضع جهنّمي مأساوي، أدّى في ما أدّى إليه، إلى جملة من الإجتهادات التصويبية والتصحيحية التي اعتمدها مؤتمر الطائف، ومن بعده اعتُمدت دستورا للبنان ما زال ساري المفعول حتى تاريخه. «الإجتهادات» الواقعية والحقيقية التي استند إليها هذا الدستور اللبناني، إنطلقت من وضعية أساسية ملحّة: كيف السبيل إلى وضع حدٍّ للحرب اللبنانية؟ وكيف السبيل إلى منع انهيار الصيغة اللبنانية؟ وكيف السبيل إلى تلافي مزيد من الخراب والدمار ووضع حد لذلك الإقتتال الشرس الذي نشأ بين أبناء الوطن الواحد، ثم أصبح احترابا أشدّ شراسة ما بين أبناء الطائفة الواحدة، ولنا في الوضعية الأخيرة خير مثال في حرب الإلغاء التي دارت على الساحة المسيحية فكانت الأشد أثرا وخطورة على نفسها وعلى الجميع.

ان المباديء الدستورية العامة التي تأخذنا إليها مطالعة الوزير جريصاتي تصلح ربما في أوضاع كتلك القائمة في فرنسا وفي الغرب عموما، ولا تصلح إطلاقا لأوضاع شديدة التمزق والحساسية والتناقض كتلك التي تسود بلادنا المنكوبة( بعضهم يقول المحظوظة بتعدّديتها الطائفية والمذهبية؟!) بكونها بلدا تمّ فيه تجميع ثمانية عشر طائفة ومذهبا، فرضت عليها الظروف والمستجدات والتحديات وأوضاع المنطقة والعالم أوضاعا شديدة التناقض والتناهض، فضلا عن نشأة إسرائيل في جواره، دولة طائفية محضة، ما زالت تسعى إلى تكريس عميق لطائفتيها المناقضة تماما للوضعية اللبنانية، ولنا في قوانينها الأخيرة التي كرّست يهودية إسرائيل بمنهجية عنصرية فجّة، وجعلت من مواطني فلسطين الأساسيين، مواطنين من درجة دنيا، خير برهان ودليل.

نعم… كما قال دولة الرئيس الحريري… إن الاجتهادات النظرية التي يتبناها أولئك الراغبون في الطعن بصلاحية الرئيس المكلّف غير المقيدة باية مهلة للتأليف هي في غير محلها الواقعي والقانوني والدستوري، وبالتالي: إن قلب الطاولات والموازين واستباق الوقت في طرح موضوع التطبيع مع النظام السوري، يدفع إلى الاعتقاد بأن اختلاق هذا المطب منذ الآن أمام التشكيلة الحكومية المرتقبة، يعني أن المختلقين يتجاهلون حقيقة الشروخ العميقة التي تسود البيئات اللبنانية المختلفة، ويتجاهلون كيف أن اللبنانيين بالكاد تجنبوا كوارث جمّة، كان يمكن أن تلحق بهم وبوحدتهم الوطنية والميثاقية، وذلك  من خلال اعتمادهم مبدأ النأي بالنفس عن كل ما يثير الخلافات العميقة فيما بينهم، وهم بالكاد سلّموا قضية أساسية ومركزية لهم للقضاء الدوّلي يصدر بها حكمه العادل تجنبا لكوارث كبرى يمكن أن تنشأ لو كان هذا الموضوع قد تُرك لعدالةٍ محلية كائنا ما كانت وضعيتها الدستورية والقضائية، وهم أحالوا «باجتهاداتهم الراقية» كل قضية خلافية أساسية، كموضوع السلاح ووحدة الدولة وسيادتها، إلى مؤتمر وطني قد يعقد وقد لا يعقد …كل ذلك سعيا إلى سلام عام وهدوء نسبي وأمن وأمان يرعاه جيش لبناني تُبنى عليه آمالٌ حالية ومستقبلية كبيرة وجذرية، هنا يكون الإجتهاد الواقعي والحقيقي والصادق والراغب في وضع حدّ للطموحات الزائدة عن اللزوم، والرؤوس المبالغة في حماوتها. وأهل هذا الاجتهاد لم يلعبوا بالنار إطلاقا، بل إن النار قد لعبت بهم وبغيرهم وما يزالون، مما أدى إلى التهاب المنطقة بكل شرور التمزّق والتسيب والخراب والدمار، وأورثت لبنان أنواعا شتى من المعاناة المأساوية التي ما زال يكابد منها حتى الآن سعيا وراء الإنقاذ والخلاص. وإلى الوزير جريصاتي نقول: الإجتهادات المستندة إلى دراسات نظرية تبقى عاجزة عن مقاربة الحقيقة القاسية: لبنان يحتاج إلى «دالوز» عملي وواقعي خاص به نسمّيه موسوعة دالوز الحقوقية الخاصة بالتركيبة اللبنانية شديدة التعقيد، فما يعاني منه وطننا المنكوب… لا ينفعه ألف موسوعة دالوز، خاصة عندما يتبين أن هذه الاجتهادات ليست في محلها الواقعي والدستوري.