يتناسى النائب جميل السيّد أن اتفاق الطائف لم يكن المقياس الذي اعتمده النظام الأسدي لوجوده وسيطرته في لبنان، ولسياساته الاحتوائية لكل مقوّماته، مثلما أنه، ذلك الاتفاق، لم يكن الآلة التي فرضت انسحاب الجيش السوري في 26 نيسان من العام 2005 وإنما أمور كثيرة أولها “قرار” المجتمع الدولي والرئيس الأميركي جورج دبليو بوش والحركة السيادية الوطنية اللبنانية التي انفجرت غداة جريمة الغدر بالرئيس الراحل رفيق الحريري!
بل لم تظهر شيئاً، سلطة الوصاية الأسدية طوال فترة تسلّطها على اللبنانيين، يدلّ على التزامها اتفاق الطائف أو أخذه في الحسبان. أو الدفع باتجاه تطبيق مبادئه التي صارت في معظمها دستور الجمهورية اللبنانية.. بل اعتمدت قياسات خاصة تناسب استراتيجيتها وتتلاءم مع حساباتها السلطوية والتسلطية التي اعتمدتها في سوريا نفسها قبل أن تعتمدها في “القطر الشقيق”.
بل إن انسحابها من لبنان كان أشبه بالاندحار التام ومن دون التدرّج الزمني والجغرافي الذي وُضع في الطائف أصلاً وقضى بإعادة التموضع في غضون سنتين إلى منطقتي البقاع والشمال.. بل إن حديث الطائف برمّته وخصوصاً بعد دسترته وقوننته، لا يصحّ إدراجه بداية وخلاصةً في السياق العام والجزئي ليوميّات سلطة الوصاية.. وهو بالتأكيد، النائب جميل السيّد، من أكثر العارفين بتلك اليوميّات، بظواهرها وبواطنها و”مآثر” رموزها و”ثقافتها” ومصطلحاتها وأدواتها وطرق عملها. وفي ذلك كله ما لا يمكن الاعتداد به! أو اعتباره مثالاً يُحتذى! أو حُجّة جدالية مرموقة يمكن رميها أمام الداعين إلى تأريخ اللحظات المفصلية في علاقات البلدين!
قضت الأقدار والسياسات والاستراتيجيات و”المؤامرات” والغرائزيات والأدلجات.. الخ بتخريب لبنان، وهتك سيادته وتحطيم دولته وعمرانه، لكن من الصعب (والمستحيل!) إدعاء دور سوري عندنا يختلف عن ذاك الذي اعتمده نظام آل الأسد في سوريا نفسها. حيث “الدستور” أمر شكلي وملتبس وانتقائي التنفيذ! وحيث “المؤسسات” الرسمية اسم من دون مضمون! وحيث “الشرعية” تقف عند حدّ صاحب السلطة ورؤاه ودوام تسلّطه وتحكّمه! وحيث “الأمن” أجهزة وبنى هو “القانون” الأول و”الأسمى”: وحيث رجاله ورموزه هم البدائل الدائمة والأكيدة عن أي أطر رسمية أو أهلية! وحيث الجميع (حرفياً!)، لا شيء مقارنةً بإرادة “القائد إلى الأبد” وقراره الذي لا يُرَدّ ولا يخضع لأي مساءلة أو نقاش أو نصّ!
ساعدت السلطة الأسدية في “وقف” الحرب لكنّها لم توقف لحظة واحدة رؤاها القائلة بإحكام السيطرة على لبنان وضمّه إلى رعايتها.. بل والعمل على قوننة الأمر وإنهائه على ما كشفته تسريبات (أو بعض تسريبات) ما كان يحصل خلال المفاوضات السورية – الإسرائيلية في واشنطن حتى لحظاتها الأخيرة في العام ألفين حيث كانت تلك القوننة ثالثة ثلاث مطالب استراتيجية كبرى طرحها الوفد الأسدي. أولها العودة إلى حدود 1967، وثانيها “ضمان” بقاء النظام!
سورنة لبنان كانت لبّ الاستراتيجية الأسدية وليس العكس ومع اختلافات شكلية ديكورية تتلاءم مع طبيعة الاجتماع السياسي والطائفي اللبناني لكنها لا تتعارض في العمق والتأثير مع الهدف التسلّطي المأمول.. وتشبه ما هو معتمد في سوريا نفسها سوى أن الأمر المزدوج آل إلى خلاصة واحدة هي إنهاء الحرب في لبنان تحت سقف تدمير دولته وكيانه ومؤسساته و”شرعيته” وسيادته واستقلاله لإحكام السيطرة عليه ثم العودة إلى إشعاله وتشليعه في حال فقدان تلك السيطرة.. ويمكن الظن بحبور وانشراح أن الشق الأخير من هذه المعادلة لم يُنفّذ ولم ينجح برغم المحاولات الحثيثة لذلك على ما أفصحت عنه قصة ميشال سماحة! في حين أن مبدأ “الأبد أو نحرق البلد” نُفّذ في سوريا نفسها وبإعجاز ما بعده إعجاز!
.. لم “يذبَح” اللبنانيون بلدهم بعدما استعادوه من الوصاية الأسدية، بل هو كان مدمّى وجريحاً ومكسوراً نتيجة إضافات تلك الوصاية وارتكابات رموزها من أكبرهم إلى أصغرهم!