في سابقة خطيرة من نوعها، حسم الرئيس اللبناني ميشال عون الجدل حول زلزال الرابع من أغسطس (آب)، واستبق المحقق العدلي والتحقيقات المحلية والدولية، معلناً «استحالة» أن يكون الانفجار الهائل في المرفأ قد نجم عن تفجير مستودع أسلحة لـ«حزب الله»، مضيفاً أن الحزب «لم يكن يخزن أسلحة في المرفأ»!
الطريف أن الحسم الرئاسي في مسألة دقيقة من هذا النوع استبق انتشال كل الضحايا الذين دُفنوا أحياء تحت أنقاض مرفأ بيروت، وهو يبقى حسماً سياسياً لا قضائياً، لأنه استبق المعطيات المنتظرة من المحققين الفرنسيين وفريق الـFBI، كما تجاهل المعطيات المهمة التي يجري الكشف عنها بدءاً من مرحلة تخزين شحنة الموت والدمار حتى الرابع من أغسطس، يوم ارتكبت بدمٍ بارد جريمة حرب بحق العاصمة بيروت وأهلها وسكانها، وكلها تثبت أن المسؤوليات عن هدر كل هذه الدماء والدمار والخسائر المادية التي تفوق خسائر حرب يوليو (تموز)، أعلى بكثير من أن تكون مسؤولية إدارية – أمنية وحسب.
والطريف أيضاً أن هذا الحسم استبق بساعات حكم المحكمة الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهو الحكم الذي قدم المثال عندما قطع مع مرحلة طويلة قُيدت فيها الجرائم السياسية الكبرى ضد مجهول، وأفلت القتلة من الحساب، وجرى استثمار تلك الجرائم الكبرى في مشاريع سياسية فرضت استتباع البلد إلى الهيمنة الخارجية، بداية النظام السوري ومن ثم الإيراني.
سيقال الكثير عن المحكمة الدولية والحكم الذي توصلت إليه وسيكتب الكثير، لكن الثابت تمثل في تكريس مصداقية المحكمة مع سقوط حملات التحريض والاتهام بأن المحاكم الدولية مسيسة ولا يجوز الركون إليها. فجاء الحكم بالأدلة القاطعة والبراهين التي تم تقديمها، ليؤكد أن الجريمة تمت لأسباب سياسية، تقف خلفها جهات سياسية ليست بعيدة عن الجريمة المصنفة من أعمال الإرهاب. وقطعت المحكمة الشك باليقين عندما رأت أن النظام السوري و«حزب الله» أصحاب مصلحة في ارتكاب الجريمة، وصولاً إلى تحديد زمن اتخاذ القرار بالتصفية الجسدية إثر مؤتمر البريستول الذي طالب بخروج جيش النظام السوري من لبنان.
فصّلت المحكمة أدوار المتهمين، من مصطفى بدر الدين القائد العسكري البارز في «حزب الله» الذي قيل إنه قتل في سوريا فأسقطت عنه الملاحقة، إلى المتهمين الأربعة الآخرين. حصرت الجريمة بأحد قياديي الحزب العسكريين المتهم سليم عياش، عندما لم تجد أدلة دامغة كافية تدين رفاقه عنيسي ومرعي وصبرا، ومعروف بدقة أن عدم كفاية الأدلة لا يعني عدم وجودها. لذلك أوضحت المحكمة أن هذه العملية احتاجت إلى قدرات كبيرة، نافية بذلك أن تكون نتيجة عمل فردي، بل تطلبت جهد منظمة كبرى من أفراد ينتمون إلى منظمة متكاملة محترفة ليس سهلاً اختراقها، لتقول تالياً إن عياش لم يكن وحيداً بل عاونه مجموعة موثوقة، ما يثبت أن شبكة تنفيذ الجريمة من صفوف «حزب الله».
الحكم القضائي الذي استغرق الوصول إليه كل هذه السنوات، تم تعليله بأدلة دامغة وإثباتات وليس استنتاجات سياسية، ومهما قيل فقد تطلب الحكم كل هذا الوقت وكذلك الأموال التي صرفت. وما كان ذلك ليحصل لولا انعدام العدالة في لبنان، بعد استتباع السلطة القضائية من جانب منظومة الفساد المتحكمة، وهو الأمر المستمر حتى اليوم وآخر الأدلة مصادرة القصر للتشكيلات القضائية. فجاء هذا الحكم ليغير مساراً تاريخياً قضى منذ عام 1975 بأن تسجل الجرائم الكبرى ضد مجهول، وأكد الحكم أن بلوغ العدالة المتأخرة خير من عدمها، وأن زمن تصحير البلد من كباره من أمثال كمال جنبلاط ورينيه معوض والمفتي حسن خالد وسواهم لفرض إملاءات سياسية لم يعد ممكناً.
هذا بالضبط ما كان يجب أن يحصل حيال جريمة الإبادة التي رمّدت نصف بيروت، ورتبت نتائج كارثية لن يخرج منها لبنان بسهولة، لأن الحدث الخطير الذي لم يتطلب حدوثه إلا دقائق قصيرة سيبقى جاثماً على الصدور ولن يتمكن واقعياً أي كان من العودة حتى لاستئناف الحياة المفروضة نتيجة الوباء! لذلك لا بديل عن الشفافية الكاملة والإصرار على المحاسبة الجادة، لأن في ذلك فقط بعضاً من التعويض على الذين دفعوا الثمن الكبير، خصوصاً أن لبنان بات أمام مرحلة وجودية تطغى فيها التوترات على العلاقة بين أكثرية اللبنانيين ومافيا الحكم!
الهبة الشعبية الغاضبة التي أعقبت تفجير بيروت تمسكت بالعدالة، فرفضت التحقيق المحلي وطالبت بلجنة تحقيق دولية خاصة أو مشتركة، ومرد ذلك القناعة بأن القضاء اللبناني الذي لا يملك كل أدوات التحقيق صودرت استقلاليته، وكُثر من الجسم القضائي يخشون الانتقامات، وما زال ماثلاً في الذهن اغتيال القضاة على قوس المحكمة قبل أكثر من عشرين سنة.
التحقيق في الجريمة ضد الإنسانية مطالب بالكشف عن كل السيناريو المتعلق بسفينة الموت من المسؤولية عن حجز حمولتها إلى تفريغها في العنبر رقم 12. وكل الخطط الركيكة في التغطية على وجود وسادة موت تحت رؤوس الناس، عبر مراسلات داخلية بين الأجهزة الأمنية وإدارة المرفأ ورئاسة الجمارك والقضاء من دون أن تؤدي تلك المراسلات إلى أي نتيجة، لأنه أُريد لها ذلك، رغم أن كل شيء كان باطلاع الوزراء المعنيين والمتعاقبين… وكشف جهاز أمن الدولة مؤخراً أنه منذ الثالث من يونيو (حزيران) الماضي تبلغ رئيس الحكومة التفاصيل ومثله كل من وزيري الدفاع والأشغال، وبعد ذلك في العشرين من يوليو تسلم عون ودياب كتاباً مفصلاً يحذر من خطر تدمير بيروت، لكن أحداً لم يتحرك لإنقاذ العاصمة وحياة المواطنين!
والتحقيق مطالب بالعودة إلى تاريخ 21 فبراير (شباط) 2014 يوم وجه العقيد في الجمارك جوزيف سكاف كتاباً إلى «مصلحة التدقيق والبحث عن التهريب» التابعة لوزارة المالية مطالباً بإبعاد السفينة «RHOSUS» المحملة بـ2750 طناً من «نيترات الأمونيوم» إلى خارج المرفأ. فكلفه ذلك حياته عندما قتل غدراً وما زالت عائلته تنتظر منذ سنوات معرفة ملابسات الجريمة! والسؤال لماذا لم تتم إعادة الشحنة إلى صاحبها ليتبين أنه ما من صاحب معروفٍ لها (…) فاستمر المالك الحقيقي مكتوماً لكنه في موقع القدرة على التغطية!
ولأن المحكمة الخاصة أثبتت مصداقية عالية وحكمت بانتهاء زمن الجريمة السياسية بدون عقاب، من غير المقبول الإصرار على التغطية بتحقيق محلي حتى ولو كان خلفه «حزب الله». وبقدر ما أثبتت المحكمة الدولية أن جريمة اغتيال الرئيس الحريري حلقة في مخطط السيطرة والاستتباع، فأغلبية اللبنانيين تعتبر جريمة الرابع من أغسطس الحلقة الأكبر في المخطط إياه لإحكام الاستيلاء الإيراني على لبنان، وبالتالي لا بديل عن التمسك بالتحقيق الدولي، لأنه الطريق المفضي لإحقاق الحق بالعدالة للبنانيين!