تبدو عودة الرئيس الحريري إلى السلطة كأنها بداية على بدء. كل حكومات الرئيس الحريري السابقة قامت على أساس تسويات فرضتها الوساطة الفرنسية وبقبول ضمني من الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل. الفارق هذه المرّة، أن الوساطة الفرنسية برزت إلى العلن. وهي حاولت أن ترسم إطار محدد لوساطتها من خلال مشروع برنامج «إصلاحي». وكما في السابق فإن فرنسا سعت لتأمين السيولة للسلطة وحظيت بالتغطية الدوليّة المناسبة. الهدف الفرنسي من دورها السابق والحالي استمر هو ذاته، الوصاية «الصديقة» على هذا البلد. أما بالنسبة للقوى الأخرى فقد كان الغرض تأمين مصالح سياسية لها. ففي السابق كان هدفها إنجاز عمليات تفتيت سوريا والعراق وليبيا، وقد حصلت على ذلك. أما الآن فمصالحها إنتخابية ومالية: فمن جهة حظيت الولايات المتحدة وإسرائيل بدعاية مجانية لصالح الرئيسين ترامب ونتنياهو تمثل في إعلان اتفاق بين «لبنان» وإسرائيل برعاية أميركية لترسيم الحدود. الرئيسان الأميركي والإسرائيلي يوظفان هذا الإتفاق في تلميع صورتيهما داخليا وخارجيا. هذا بالإضافة إلى أن إسرائيل ستحظى بحرية التنقيب على الغاز والنفط في مياهها الإقليمية من دون خوف من «تهديدات» حزب الله. أما الثنائي الشيعي ورئيس «تيار الإصلاح والتغيير» وباقي أركان السلطة يتحدثون عن عائدات التنقيب على الغاز والنفط في المياه الإقليمية اللبنانية، كوسيلة للتخفيف عن كاهل المواطن. كل ذلك يتم برعاية فرنسية إذ ستقوم فرنسا بأعمال التنقيب. المهم اين ستذهب عائدات هذا النشاط الإقتصادي؟ قال الرئيس بري: أنه سيتم دفع الدين العام على لبنان. هذا يعني ان الشعب اللبناني سيدفع ثمن فساد الطبقة السياسية وجرائم التدخل الخارجي بشؤونه. فالدين العام حصل بسبب فساد أهل السلطة وشركائهم في القطاع الخاص والمصرفي، ونجم نتيجة الحروب والتدمير والأضرار التي أدت إليها الحروب المتكررة على أرضه الوطنية في إطار صراع الدول على هذه المنطقة.
لكنني لست واثقا فعلا إذا كانت المهلة التي أعطاها الرئيس المكلف لحكومته تسمح بالتنقيب على الغاز والنفط وبدء أنشطة إقتصادية مجدية وطنيا. أنا أخشى أن هذا التوافق الخجول الذي يسمح بعودة الرئيس الحريري إلى القصر الحكومي، ليس سوى إبرة مهدئ للمواطن اللبناني لكي لا يدفع بالأمور إلى حيث لا يريد الخارج. الولايات المتحدة بحاجة لتهدئة لكي تمر مرحلة الانتخابات الأميركية بهدوء وكذلك لمهلة بعد الانتخابات لاستكمال تركيز الإدارة الجديدة. كما أن إيران بحاجة للوقت وتأمل بتغيير في السياسة الأميركية. أما فرنسا فتعد ذاتها لتلك المرحلة فدورها قائم بكل الأحوال.
لن يفيد الصراخ السياسي، ولعل علينا أن نتذكر أن ثمة عوامل قوة يخسرها اللبنانيون مجانا، لأنهم يجهلون ماهية هذه القوة. بكل بساطة هي قوة حقوقهم المشروعة في القانون الدولي. يكفي اللبناني ان يصرخ في كل ساعة مطالبا بحقوقه. حقوقه أولا بوجه الأمم المتحدة التي تجاهلت موجبها وفقا لاتفاقية الهدنة لعام 1949 فساهمت منذ 1969 بتحويل لبنان إلى ساحة للحروب والنزاعات، ما زالت مستمرة إلى اليوم. وحقوقه اتجاه الدول التي ساهمت بتدميره من خلال تسليح المجموعات المحليّة وتذكية الحروب الأهلية وعبر حدوده الوطنية. وحقوقه في وجه أمراء الحرب الذين ارتكبوا كل الجرائم التي يندى الجبين لها بدءا بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وصولا إلى جرائم الإرهاب والجرائم المنظمة.
المطالبة بحقوقنا لا يرتبط بأي توقيت وكل ما يطلبه إرادة وطنية تقوم على قاعدة صياغة المطالب بلغة قانونية بعيدا عن الشعارات السياسية الجوفاء، والتوجه دون وجل إلى الأمم المتحدة ومنظماتها وهيئاتها المختصة لتفعيل المطالب. لا حاجة لانتظار الحكومة لتقوم بهذا الأمر. من حق كل المنظمات الأهلية ان تفعل ذلك.