بعدما باشرَت المحكمة الخاصة بلبنان إجراءات المحاكمة مطلعَ السنة الجارية واستمعَت حتى هذه المرحلة إلى مئات من الشهود، بعضُهم بموجب إفادات خطّية وآخرون من خلال تمويه وجوهِهم، وبعضُهم ظهرَ علناً على شاشات التلفَزة، سواءٌ من مكتب المحكمة في لبنان أو مباشرةً من لاهاي. وقد صُنّف بعضُهم في خانة المتضرّرين والمتخصّصين التقنيين وموظفي الضابطة العدلية من خبَراء في مجال الطبّ الجنائي والأمنيّين المتخصّصين في ضبط الأدلّة الجنائية.
وبعدما عُرِضت على المحمكة تقارير ومستندات تفوق مليون صفحة بين مستند ووثيقة ودفوع ومذكّرات، كان أهمّها تقرير المفتّشية العامة لقوى الأمن الداخلي الذي أشار إلى مكامن الخَلل في إطار تطويق ساحة الجريمة ورفع الأدلّة، والتأخّر لأسابيع أحياناً في الكشف عن الجثث ووفاة البعض اختناقاً بسبب التأخّر في العثور عليهم، وكلّ ذلك لم يكن يحتاج إلّا إلى استخدام الكلاب البوليسية في كلّ ساحة الجريمة، كما تمّ إتلاف الأدلّة خصوصاً في الحفرة التي أحدَثها الانفجار عندما طُمِرَت بالرمول وتسرَّبَت إليها مياه الأمطار، ما أفقدَ القدرة على كشف مواد التفجير بصورة جيّدة.
كما تمّ سحبُ سيّارات موكب الرئيس رفيق الحريري بطريقة غير مهنية، بحيث تمّ إتلاف كثير من الأدلّة وإخفاء بعض ما صوّرَته الكاميرات المنتشرة في بعض الأماكن المتاخمة لساحة التفجير…
والآن جاءت مرحلة الاستماع إلى أبرز الشهود وبينَهم مَن كان قريباً من الحريري سياسياً أو أمنياً، أو من كان يعمل مع النظام وقرَّر الإدلاء بشهادته بعد منحِه الامتيازات الخاصة بنظام حماية الشهود، وقد افتتح هذه المرحلة النائب مروان حمادة الذي كان همزةَ الوصل بين الحريري والنائب وليد جنبلاط، وشاركَ في إعداد الوثائق السياسية التي سبَقت إتفاق الطائف وتوَلّى مناصبَ وزارية منذ مطلع الثمانينات، كذلك كان نائباً عن الشوف بعد تطبيق «الطائف»، وكان على بيّنةٍ من تفاصيل المواجهة مع النظام السوري منذ انتخاب الرئيس إميل لحّود مروراً بالتمديد وظروف صدور القرار 1559 وصولاً إلى تهديد الحريري، وما محاولة اغتياله إلّا رسالة إلى جنبلاط والحريري معاً.
وقد تمحورَت هذه الشهادة حول دقّة تفاصيل المحطات الأساسية التي ساهمَ حمادة فيها، فتحدّثَ عن علاقة النظام السوري بالحريري منذ توَلّيه منصبَ رئيس حكومة لبنان عام 1992 حتى تاريخ استشهاده. وهو أشارَ إلى آخر لقاءين بين الرئيس بشّار الأسد والحريري اللذين فرَضا على هذا الأخير بَيعَ أسهمِه في جريدة «النهار» في خلال أقلّ من 48 ساعة وإلزامِه بالتمديد للحّود تحت طائلة «تدمير لبنان على رأسه ورأس وليد جنبلاط».
وفي السياق عينِه سيأتي دور كثير من رفاق الحريري الذين واكبوا المرحلة الأخيرة من حياته، ولا سيّما منهم مَن كان يحتفظ ببعض الأدلّة التي تثبت «ضلوع» النظام الأمني بالتفجير في لبنان، وليس دليل «إتصال» الأسد بالمسؤول الأبرز من المتّهمين الخمسة مصطفى أمين بدر الدين إلّا شيئاً من هذا القبيل، كما وردَ بعض الاتّصالات الأمنية التي تثير الريبة والشكّ قبل بضع ساعات من الاغتيال على هواتف مَن كان يلتقيهم الحريري من شأنها أن تلقيَ الضوء على بعض ما اعترى القرار الإتهامي من غموض بسبَب نشره موجَزاً بنحو 60 صفحة، وهو أصلاً يتكوّن من عشرات الألوف من الصفحات والوثائق.
كلّ ذلك سيلقي الضوءَ على حقيقة الاغتيال وأهمّية هذه المحكمة التي تكثّفَت جلساتُها بحيث تعقد نحو مئتي جلسة في السنة، وتنصرف في الوقت المتبقّي لإعداد إجراءات المحاكمة في الأوقات التي لا تنعقد فيها، كالاتّصال بالشهود وتأمين حضورهم في مواعيد محدّدة مسبَقاً، وتقديم الطلبات وتأمين تبادل الأدلّة والمستندات بين أطراف المحكمة، ما يؤكّد جدّيتها، وهي ستنتهي من الاستماع إلى حمادة وسواه هذا السنة لتنطلقَ في السنة الجديدة جلساتٌ مكثّفة أسبوعياً بمعدّل 3 إلى 4 جلسات في الأسبوع، تستمع فيها إلى شهادات ذات قيمة، ولا سيّما منها شهادات مَن كان يشغل دوراً أمنياً آنذاك وكان قريباً من الحريري، وكذلك مَن كان يشغل دوراً إستشاريّاً أو مساعداً ويعيش في منزل الحريري.
ومن بين هؤلاء الرئيس فؤاد السنيورة والوزير أشرف ريفي وباسم السبع وهاني حمود، وقد يكون جنبلاط بين هؤلاء إذا احتاجَ إليه فريق الدفاع، فلننتظر لنرى، لأنّه بعد الاستماع إلى هؤلاء سنكتشف كثيراً من الأسرار التي يرتبط القرار الاتّهامي بها، بحيث شكّلت هذه الأحداث والمواجهات السياسية الصِلة السلبية التي أدّت إلى اغتيال الحريري وهي ستشكّل صدمةً في الوسط السياسي حيث قد يعمَد المتضرر منها إلى التضليل مجدّداً لغسلِ يديه ممّا ارتكبَه آنذاك.