Site icon IMLebanon

كيف يمكن العبور إلى العدالة؟

 

سقطت العدالة في لبنان مع سقوط الدولة، وعبثاً البحث عن عدالة قبل قيام الدولة، ولا رادع للجريمة دولياً ومحلياً قبل ان تفرض الدولة هيبتها وسيادتها، ويصبح السلاح من اختصاصها وحدها وتُزال كل البؤر الأمنية.

صحيح انّ المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري أكّدت الطابع السياسي للاغتيال، وحدّدت هوية المجموعة التي نفذّت هذا الاغتيال، وسمّت الشخص المسؤول عن العملية، ولكن الأمور انتهت عند هذا الحدّ، فلم تَعتبِر المحكمة مثلاً انّ الحكم يجب ان ينفّذ تحت الفصل السابع، حيث يُصار إلى إرسال قوات دولية من أجل القبض على المجرمين الفارين من وجه العدالة، إنما اكتفت بالتشخيص، فيما الفريق المعني، والمتهّم، واصل تخوين المحكمة واتهامها بالتسييس، وانتهت الأمور عند هذا الحدّ.

 

فلا يمكن ردع الجريمة من دون توقيف المجرمين، لأنّ عدم القدرة على توقيفهم يشجعهم على مواصلة هوايتهم بالقتل، والدليل الاغتيالات الأخيرة وأبرزها الناشط لقمان سليم الذي انضمّ إلى قافلة الشهداء الأموات والشهداء الأحياء الذين لم يُكشف بعد من اتخذ قرار اغتيالهم، وفي حال تمّ الكشف عن هويته، وهو معروف طبعاً، سيبقى فاراً من وجه العدالة، وهناك من يدافع عنه بحجة انّه استهداف سياسي، وفي كل هذه المعمعة تبقى الحقيقة مغيّبة والعدالة غير مطبّقة وشريعة الغاب والقتل هي السائدة.

 

ولم يتوقف الاغتيال بسبب أنّ المنفِّذ يخشى العدالة او يخاف من كشف عملياته، إنما توقّف إما لأنّه لا يرى هدفاً يستحق الاغتيال، وإما لأنّ بعض الأهداف متعذرة عليه، ولكن في اللحظة التي يجد فيها انّ هناك من يشكّل خطراً عليه ويجب شطبه من المعادلة لن يتردّد في اغتياله، او عندما يجد انّ الوضع السياسي أصبح يستلزم توجيه رسالة بالدم لردع توجّهات معينة لن يتأخّر في توجيه هذه الرسالة.

 

فالمواطن اللبناني رأسه مكشوف، وقادة الرأي معرّضون للاغتيال في اللحظة التي يرى فيها الفريق الذي يتولّى هذه المهمة انّ أحدهم خرج عن السقف المسموح، او انّه أصبح ضرورياً توجيه رسالة من هذا القبيل، ويستحيل توفير الحماية اللازمة للنشطاء، لأنّ خلية الاغتيال تتحرّك بسهولة رصداً وتحضيراً وتنفيذاً.

 

وقد أثبت مسار التحقيقات في انفجار المرفأ، انّه عندما وجد قاض نزيه وجريء ومصمِّم على كشف الحقيقة وتحقيق العدالة، تمّ تطويقه إما بذريعة الحصانات واتهامه بالتقصير والاستنسابية وتحول معظم الطبقة السياسية إلى قضاة، وإما بالترهيب والتهديد العلني بـ»القبع» وكأنّ لا رأي عام داخلياً وخارجياً، ولا دولة ولا قضاء، وحتى الشكليات لم تتمّ مراعاتها، من التهديد المعلن، إلى رفض التوضيح والنفي الفوري.

 

ولا تعني رسالة التهديد سوى أمر واحد، وهو انّ العد العكسي لكفّ يد القاضي بيطار قد انطلق، خصوصاً انّه تقاطع ضده المكوِّن المهدِّد، والمكوّن الذي حوّل القضية إلى طائفية، فتمّ تطويقه وأصبح يعمل ضمن بيئة غير مساعدة لا أمنياً ولا سياسياً ولا قضائياً، وذلك في ظل مصلحة مزدوجة للمكونين ولاعتبارات مختلفة لتطيير القاضي، وتطييره هذه المرة يعني انتهاء التحقيقات وانضمام انفجار المرفأ إلى لائحة الاغتيالات الطويلة التي لم يكشف أصحابها، باعتبار انّ تعيين اي قاضٍ جديد يعني التزامه بالسقف الذي تمّ وضعه خشيةً على حياته، بعدما رأى بأم العين كيف آلت الأمور مع سلفه.

 

والمؤسف انّ بعض من ينتحل صفة الثورة ويزايد بشعار «كلن يعني كلن» لم يحرِّك ساكناً حيال تهديد قاضٍ في انفجار هزّ ضمائر العالم، وبدلاً من ان يشكّل حماية شعبية لهذا القاضي والدعوة إلى تظاهرات واعتصامات مفتوحة، يكتفي في إصدار بيانات رفع العتب، فيما يواصل تصويبه على الفريق الذي يشكّل رأس حربة في الدفاع عن السيادة والدولة.

 

وفي مطلق الأحوال، ما يحصل على مستوى بعض الثورة يشكّل إدانة لهذه المجموعات التي صوّرت نفسها أكبر من حجمها، والأسوأ تحوّلها إلى أداة بيد فريق الدويلة الذي يستفيد منها من زاويتين: التعويض عن تراجع حليفه المسيحي من خلال الدفع باتجاه ان تصبّ الأصوات التي هجرت هذا الحليف لمصلحة هذه المجموعات وليس لدى من يحمل لواء السيادة والدولة، والزاوية الثانية بسبب تركيز هذه المجموعات حملتها على الفريق السيادي قطعاً للطريق على اي استقطاب يمكن ان يحققه.

 

وأما السؤال الأساس الذي يطرح نفسه: كيف يمكن توفير العدالة للبنانيين ووقف الجريمة السياسية طالما انّ القضاء اللبناني عاجز عن القيام بالمهمة، والقضاء الدولي يكتفي بالسرد والتشخيص من دون توقيف المجرمين من خلال وضع قرار التنفيذ تحت الفصل السابع، والدليل انّ الاغتيالات تواصلت بعد إنشاء المحكمة الدولية، ما يعني انّها لم تشكّل رادعاً للقتلة؟

 

يستحيل وقف الجريمة السياسية قبل قيام الدولة، كما يستحيل ترسيخ الاستقرار قبل قيام الدولة، وعلى اللبنانيين ان يدركوا انّ الخيار الوحيد أمامهم يكمن في مواجهتهم لسياسة الأمر الواقع، والدفع قدماً باتجاه قيام الدولة التي تشكّل وحدها مظلّة الأمان لهم أمنياً ومالياً واقتصادياً ومعيشياً واجتماعياً، وما لم يستعيدوا الثقة بأنفسهم ويبادروا باتجاه انتزاع قرارهم، فإنّ حالة اللااستقرار ستبقى السائدة حتى إشعار آخر.

 

وعبثاً الرهان على محكمة دولية من هنا، او على قرار دولي من هناك، أو على قضاء محلي في ظل الواقع الراهن من هنالك، فالمجتمع الدولي هو مجتمع مساعد ومساند، ولكن المسؤولية الأولى والأخيرة تبقى على اللبنانيين، فهل سيحولون الانتخابات النيابية إلى محطة تشكّل انطلاقة لدينامية التغيير؟

 

فالانتخابات فرصة جدّية لبداية مسار التغيير، وفي حال لم يتمّ إلتقاطها والاستفادة منها، فيعني الاستمرار في دوامة الفشل نفسها، وانّ البلد سيواصل انزلاقه من السيئ إلى الأسوأ، خصوصاً في ظل الانطباع السائد لدى اللبنانيين بأنّ لبنان لم يعد مساحة آمنة للعيش، وفقدوا فيه نمط عيشهم الذي حافظوا عليه إبّان الحرب، وبالتالي في حال عدم المبادرة باتجاه ثورة جديدة او تسونامي انتخابي او جبهة سيادية، فإنّ سياسة تفريغ لبنان ستتواصل.