لم أعد أذكر السنة، ولكنّنا كنا في فترة الزمن السوري، ولم أعد أتذكر المكان بالتحديد وإنما أتذكّر جيداً الوجوه… كنا خمسة أشخاص، نتناقش مضمون بيان نريد إصداره بعد اعتقال مجموعة من رفاقنا المتظاهرين على يد الأجهزة الأمنية وإحالتهم امام القضاء.
على ما أذكر كان النقاش هادئاً وبنّاءً كوننا كنا متفقين على معظم الأفكار التي من المفترض أن تُكتب في البيان، الى أن تقدّم أحد المشاركين باقتراح بأن يتضمّن فقرة عن «سيادة دولة القانون»… وما أن تلفّظ المسكين بهذه العبارة حتى سادَ هرج ومرج على الطاولة، وكأنه أطلق شتيمة من العيار الثقيل أو كلاماً نابياً بحق أحد الحاضرين… ليقول له محام كان طوال الفترة السابقة ساكتاً وبصوت عال: «دولة القانون» غير موجودة في قاموسنا، فنحن نسجن باسم دولة القانون، وباسمها نضرب كلّ يوم، والحاكم في بلادنا وبلاد العالم الثالث يستعمل القوانين ويكتبها ويُقرّها وينفّذها ليحكم ويتسلّط «ويعربد»… وأضاف: باسم القانون مات سقراط مسموماً، وتحت سقفه ومن أجله صُلب السيد المسيح.
وأنهى حديثه قائلاً: القانون كلمة مطاطة، وسيف مصلت من السلطة مهما كان نوعها على رقاب المعارضين… وحسماً للجدل سألته وما العبارة الصحيحة التي يُفترض بنا أن نستعملها…
على الفور أخذ الكلام مهندس ضليع «بحقوق الانسان» ومتخصّص بكلّ ما يتعلق «بالحق الانساني»: من واجبنا أن ننادي «بسيادة دولة العدالة»، فقواعد العدل ثابتة ومطلقة ولا يمكن المساس بها، وذلك على عكس القواعد والأسس التي تقوم عليها القوانين… ليستفيض بشرح الفارق بين حكم القانون ومفهوم العدل المطلق، وبعد جدال استمرّ نحو ساعتين انتهينا من كتابة البيان مؤكدين فيه سيادة الدولة العدالة…
مرّت الايام… وكنت التقي بالرفيق المحامي والرفيق المهندس في ساحات النضال… والسجون… ولم نبدّل يوماً من موقفنا بضرورة أن تسود العدالة في لبنان… فوحدها العدالة تحمي كرامة الانسان وتحفظ حقه كفرد وكعضو في جماعة…
بعد الانسحاب السوري، دخل المهندس الندوة البرلمانية، وأصبح المحامي عضواً في نقابة المحامين… وكنت كلما أراهما أشعر بالفخر والاعتزاز… وأتذكر أيام النضال، وكلامهما عن العدالة وعن شرعة حقوق الانسان… وأقول في سرّي لا خوف علينا بعد اليوم من أن نسقط بتجارب الماضي المظلمة..
كان هذا الشعور يلاحقني حتى ولو اختلفت معهما في مقاربة بعض الأمور الظرفية، وحتى لو أبعدتنا هموم الحياة بعضنا عن بعض… ولا أفشي سرّاً بأنّ هذا الإحساس رافقني الى الاسبوع المنصرم… وتحديداً الى حين اتخاذهما موقفاً جائراً كانا فيه رأس حربة في الدفاع عن أصول ظالمة لقانون ناقص في فترة مشبوهة… ليسقطوا مفهوم العدالة ومفاهيم الرفاق في غياهب السلطة وأملاً بالحفاظ أو بالوصول الى مركز… شعرت عندها بأنّ شيئاً قد انكسر وصورة مقاومين قد تشوّهت في فكري وقلبي وما زاد من حزني ومن قلقي عليهما بأنّ كثيرين شعروا بما شعرت…