IMLebanon

“نور الفيحاء” محكوم عليه… بالخفوت

 

“الطاقة” تتمسّك بكهرباء قاديشا وتحوّلها حديقة خلفية للتوظيف والتمويل السياسي

كان يا ما كان في قديم لبنان… كهرباء. وفّرها من دون إنقطاع نظام “الامتيازات” القائم على اللامركزية والاستثمار الخاص في الانتاج والتوزيع، المعمول به منذ مطلع القرن العشرين. ولسخرية القدر فان المطالبات بالعودة إلى الطريقة التي اعتمدت في بدايات 1900 تجدّدت بعد أكثر من مئة عام لحل أزمة الكهرباء، بعدما أثبتت المؤسسة العامة المركزية فشلها الذريع.

 

باستثناء كهرباء زحلة، عملت الدولة على استرداد بقية الامتيازات ودمجها بـ “كهرباء لبنان”. والتي منها على سبيل الذكر لا الحصر: بحمدون، عاليه، جبيل وقاديشا. فكانت النتيجة حرمان المناطق من النور، وإمعاناً في الفساد الاداري والتوظيفي، وإبقاء هذه المؤسسات “لا معلقة ولا مطلقة”، ومصدراً للتمويل والاستزلام السياسي. وإذا كان لكل امتياز فصلٌ يروى من كتاب الكهرباء الأسود، فان “شركة كهرباء لبنان الشمالي – قاديشا” تعتبر خير مثال عن النفاق في إدعاءات إصلاح الكهرباء وتأمينها 24/24.

 

قاديشا “حديقة خلفية” للتمويل السياسي

 

في العام 1929 أُنشئ في طرابلس معمل ينتج الكهرباء من مساقط مياه نبع قاديشا – بشري. وقد زود المعمل مدينة الفيحاء والجوار بالكهرباء من دون انقطاع. واستطاع بعد تطويره وإضافة وحدات انتاجية عليه تصدير الطاقة إلى سوريا. “مشوار” النور في الشمال انتهى في الثمانينات مع عزم الدولة نيتها على استرداد مصادر إنتاج الطاقة. فأُصدر في العام 1986 مرسوم يقضي باسترداد شركة “قاديشا” وتعيين لجنة لاستثمارها.

 

الصادم ان الدمج مع مؤسسة كهرباء لبنان كما يقضي المرسوم لم يحصل لغاية اليوم. و”بقيت طبيعة “قاديشا” القانونية غير مفهومة وملتبسة”، يقول مدير عام الاستثمار السابق في وزارة الطاقة غسان بيضون: “فلا هي مؤسسة عامة، لأنها غير مستقلة ويديرها مجلس إدارة كهرباء لبنان، ولا تخضع حساباتها وقراراتها للرقابة، ولا تقدم تصاريحها الضريبية لوزارة المالية ولا التزاماتها تجاه الضمان، كشركة خاصة صاحبة امتياز. وليس هناك من يدقق بتكلفة الأشغال بمليارات الليرات، التي تتولى تنفيذها وتسجلها لصالحها على حساب الدولة سنوياً خارج الرقابة وخلافاً للأصول. وفوق هذا كله “تستعير” من كهرباء لبنان عشرات الأطنان من كميات الفيول التي تدفع الخزينة ثمنها، وكذلك تحصل على موافقات استثنائية سنوية من وزير المال لإعفائها من موجب التصريح لضريبة الدخل. وكذلك من موجب تسديد التزاماتها تجاه الضمان للحصول على براءة الذمة”.

 

مطالبات “الشركة” وزير الطاقة مراراً وتكراراً بعرض وضعها القانوني الملتبس على مجلس الوزراء لمعالجته؛ كان يجابه دائماً بالرفض وذلك كي تبقى “حديقة خلفية له، وصندوقاً أسودَ لتمويل التوظيف والاستثمار السياسي من خلال لوائح المياومين، كما من خلال تركيب المحولات او شبكات التوزيع وصيانتها”، يقول بيضون. و”يا ويل البلدية التي لا تراجع مسؤول “التيار” في المنطقة للحصول على رضاه، ومن بعده على الموافقة لتلبية طلبه”!

 

“نور الفيحاء” مُطفأ

 

الحالة الشاذة لكهرباء قاديشا، والمترافقة مع ارتفاع معدلات التقنين في المدينة وجوارها إلى أكثر من 16 ساعة يومياً، دفعت رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي إلى اطلاق مبادرة “نور الفيحاء”. حيث يقوم المشروع على استرداد امتياز الشركة، وإعادتها الى طرابلس كشركة مساهمة تنتج الكهرباء للمدينة بانتظام بواسطة الاستثمار الخاص. وذلك بعد انشاء وحدات انتاج اضافية على الغاز وتقوية الشبكة.

 

الفكرة ليست اختراعاً بل هي تنطلق، بحسب النائب نقولا نحاس، من أحكام القانون 288/2014 الذي أجاز تلزيم مشاريع بناء معامل طاقة تعتمد على طريقة التصميم والتمويل والانتاج والتشغيل والتسليم إلى الدولة بعد فترة زمنية. ويسمح لمؤسسة كهرباء لبنان بشراء الكهرباء المنتجة من معامل معالجة الانتاج الخاصة. المشروع الذي ما زال قائماً إلى حين توفر شروط نجاحه، “اصطدم بعقم سياسات وزارة الطاقة”، يقول نحاس. “وقد أهمل الطرح، وعومل بلامبالاة مثله مثل كل المشاريع التي لا تتطابق مع المجموعة التي تحكمت بالوزارة”. وبرأي نحاس فان “رفض المشاريع المنتجة وغير المكلفة يأتي لحساب استمرار الحل الموقت المتمثل بالبواخر الذي يكبّد الخزينة الكلفة الاعلى في انتاج الكهرباء. وبالرغم من وجود القوانين التي لا تحتاج إلا للتنفيذ فان “العقلية التي ينقصها الوعي المتحكمة بوزارة الطاقة، تعرقل كل المشاريع وتضرب كل القوانين الموجودة عرض الحائط”. نحاس الذي يؤكد على اهمية بناء المعامل الكبيرة، والتي تتميز بتراجع الكلفة مع زيادة الانتاج، يعتبر ان “توفر محطات الدعم في المناطق يمثل اهمية كبيرة في تأمين الطاقة والتعويض عن أي عطل أو خلل يصيب الوحدات المركزية”.

 

تنظيم القطاع

 

ما عرف قديماً بـ”الامتياز” يشار اليه حديثاً بـ( BOT التشييد والتشغيل ونقل الملكية)، ولو أن العمر الزمني للطريقة الاخيرة أقصر من سابقتها. وإذا كان لا بد من هذه الطريقة لانتاج الكهرباء في المشاريع الحرارية أو الخضراء أو عبر الدخول في شراكة بين القطاع العام والخاص PPP، فان الاولوية تَفرض اقرار الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء بحسب القانون 462 من دون تعديل. إذ انه من دون هيئة ناظمة، تطلق دفتر الشروط وتستقطب العروض وتشرف على المناقصات، فان سلطة الوزير ستبقى مطلقة. وسيحدث لكل القطاعات التي تندرج تحت مسمى وزارة الطاقة كما يحدث بين كهرباء قاديشا ومؤسسة كهرباء لبنان، حيث يخاطب المدير العام لمؤسسة كهرباء لبنان “قاديشا” من موقعه، ويجيب نفسه من قاديشا بصفته رئيس مجلس إدارتها. وتستمر الفوضى وعملية ضرب اساس الدولة برعاية وزارة الطاقة.