استعدادا لعودة لودريان إلى لبنان في شهر أيلول القادم ليرى ما إذا كان النواب اللبنانيون قد توصلوا إلى تفاهم على أسم الرئيس، ولكن، وللأسف، ما زالوا يتبادلون الاتهامات، فكل طرف يتهم الطرف الآخر بعرقلة انتخاب رئيس الجمهورية دون أن يرفّ لهم أجفن أو إحساس بالمسؤولية عن هذا الوضع. ففريق الممانعة يتهم الفريق السيادي بالعرقلة لأنه يرفض التحاور معه، حتى لو أعلن الفريق الممانع استعداده لمناقشة الأسماء المطروحة للرئاسة.
والفريق السيادي يتهم الفريق الممانع بإصراره على فرض مرشحه، وأن ما يطلبونه ليس حوارا لاختيار رئيس، بل بحث في كيفية كسب الأصوات لانتخاب سليمان فرنجية للرئاسة ولا خيار آخر، وبنظر الفريق السيادي فإنّ الممانعين لا يعيرون أهمية لمن يخالفهم الرأي، بسبب فائض القوة، وبالتالي لا داعي للحوار، فحزب الله لا يسمع إلّا صوته الذي يجب أن يسمعه معارضوه، فالحوار، إن حصل، لن يكون إلّا حوار طرشان، ولكن ما طرحه لودريان لم تكن دعوة للحوار بل تشاور ثنائي أو متعدد للوصول إلى تفاهم على اسم رئيس، والجميع مقتنع بأن التوصل إلى نتيجة إيجابية هو من المستحيلات، بل أنّ لودريان نفسه يعرف مسبقا هذا الأمر، والجميع لا ينتظر نتيجة إيجابية إلّا إذا حصلت معجزة، ونحن لسنا في زمن المعجزات.
وحصلت حادثة انقلاب شاحنة الذخيرة، والعائدة لحزب الله، على كوع الكحالة الشهير، وشهرته تعود إلى ما شهده هذا الكوع من حوادث وردود أفعال، مما زاد الطين بلّة.
ولا داعي لتكرار وصف ما حصل، وإن كانت النتائج محزنة، ولكن ما كشفه هو عمق الهوة بين المقاومة وبين الفريق المسيحي، وما كان يسمّيه حزب الله البيئة المسيحية الحاضنة للمقاومة تبخّرت، بل أن هناك من هو على استعداد لحمل السلاح لمواجهة التصرفات الاستعلائية للحزب، بسبب ما يشعر به من فائض القوة، والتي لا تعير اهتماما إلّا لمصالحه، بل أن البعض من الفريق المسيحي سخر من مقولة «ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة» بأن الحزب لم يعد بحاجة إليها بل أن الحزب يتصرف وكأنه لا حاجة لشعب ولا لجيش، فالمقاومة هي كل شيء، فـ«الشعب» هو شعب المقاومة و«الجيش» هو جيش المقاومة، وما تقرره المقاومة هو الذي ينفّذ، وعلى الباقين أن يوافقوا أو أن يبصموا. فهل استشارت المقاومة يوما الجيش أو الحكومة في أمر يطلب إليها تنفيذه، وغالبا ما يكون الطالب إيران، مثل القتال في سوريا والعراق واليمن وانعكاس ذلك على لبنان؟
لقد أتت حادثة الكحالة لتزيد الحالة تعقيدا ولتطرح الكثير من التساؤلات حول: ما هو الهدف الحقيقي للحزب من زيادة التسلّح؟ هل هو لتوزيعه على مناصريه لزيادة فائض القوة؟ أم هل هو لإفهام من يجب، بأن لا مناقشة لقرار الحزب بشأن انتخاب سليمان فرنجية للرئاسة ولا خيار آخر؟ دون أن ننسى أحداث عين الحلوة، خاصة وأن أصواتا ارتفعت بعد هذه الأحداث اتهمت الحزب بأنه وراء ما حدث، وأنّ السلاح المتفلت في المخيمات مصدره حزب الله، وبالتالي لا مجال لضبط السلاح المتفلّت إلّا بوضع حد له.
والمسيحيون يتهمون الحزب بأنه وراء اغتيال إلياس الحصروني مسؤول القوات اللبنانية في عين إبل، ولهذا كان رد الفعل المسيحي عاليا، والاستنكار المسيحي لحمولة الشاحنة تلته دعوات لعدم السكوت، كما أن بعض المواقف لسياسيين على خلاف مع حزب الله، لم تكن أقل تشنّجا، من ناحية أخرى فإنّ مواقف مسؤولي الحزب لم تكن أقل تشنّجا وخاصة اتهام معارضيهم بالعمالة ومناصرة العدو.
ولكن لم يخلُ الأمر من دعاة التسامح والتعالي عن الجراح وخاصة راعي أبرشية بيروت للموارنة المطران بولس عبد الساتر الذي دعا لضبط النفس «لأن الفتنة تترصدنا «واصفا» ما حصل بأنّه «مأساة وطنيَّة لا يجب أن تتكرَّر أبداً ولأي سبب كان. كفانا موتاً وحزناً وسواداً. كفانا دموعاً وترمّلاً وتيتماً».
تدخّل الجيش اللبناني في نزع فتيل الاشكال كان موضع تقدير العقلاء رغم الهجوم الذي شنّه عليه بعض معارضي حزب الله الذين اتهموه بأنه يعمل (Delivery) لدى حزب الله، ظنا منهم أنه بإعلانه عن نقل حمولة الشاحنة إلى مراكزه العسكرية إضافة لعدم تسميته للحزب بأنه صاحب الشاحنة. وموقف الجيش كان حسّاسا فهو يريد حلا للمشكلة وليس صداما مع أي فريق، لأن الجميع بالنسبة له لبنانيون وهو يريد أن يكون عامل توحيد وليس عامل تفرقة، كما أن الجيش لم يكن عامل دليفري للمقاومة فهو أبلغ المقاومة بضرورة إيجاد حل للمسألة قانونيا أو سياسيا، غير أنّ غبطة البطريرك الراعي أعاد الاعتبار للمؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية والقضاء باعتبارها المرجع الصالح للاحتكام إليها.
موقف المطران عبد الساتر لاقى ترحيبا من قيادة المقاومة. ولكن الترحيب بموقف تصالحي من طرف يجب أن يلاقيه موقف تصالحي من الطرف الآخر، ولا يكفي الترحيب به، كأن يعتبر الحزب ذلك انتصارا له وهو غير ملزم بتنازل بالمقابل، فإذا لم يكن هناك موقف لحزب الله يكون تصالحيا كمن يقفل الباب على أي تقارب، إذ كيف يمكن أن نتصور أنّ فريقا يدعو لضبط النفس «لأن الفتنة» تترصّدنا يقابله الفريق الآخر بموقف متصلّب؟
فحزب الله مدعو للمبادرة، ردّا على هذا الموقف للمطران عبد الساتر ولمن اتخذ موقفا تصالحيا من المسيحيين بموقف مماثل، يكون دليلا على رغبته باحترام شركائه في الوطن، وأن يكفّ أنصاره عن تكرار الخطابات الاتهامية الممجوجة لمعارضيه واعتبار كل من يعارضه عميل لإسرائيل. فهو لعب دورا حاسما في ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل بل قدّم تنازلات عن خط الترسيم البحري 29 ووافق على خط الترسيم البحري 23 ولم يتهمه أحد بالخيانة في حين كان خط الترسيم البحري 29 مدرجا في اتفاقية 17 أيار1983 التي وقّعها الرئيس السابق الشيخ أمين الجميّل. وتم إلغاؤها بعدما اتهمته القوى المعارضة له بالتنازل عن حقوق لبنان.
مثل هذا السلوك التصالحي من حزب الله يمكن أن يضع حدا للفراغ الرئاسي وينقذ لبنان، ويكون المثل الذي يقول: «اشتدّي أزمة تنفرجي» صادقا.
أما إصرار الحزب على موقفه المتصلب يعني المزيد من الفراغ ومزيد من التعطيل بل مزيد من الانهيار، ولا يظنّن أحد انه سيكون بذلك رابحا.