فيما يواظب أهل السياسة على تثبيت منظومة الشلل الضاربة في المؤسسات، يملأ الأمنيون «الفراغ» بالانجازات المناسبة. في الآونة الاخيرة ازدادت وتيرة الاعلان عن توقيف شبكات إرهابية الأمر الذي يدلّل على أن «شعرة» تحييد لبنان عن الفوضى، في ظل الازمة السياسية الكبيرة التي يعانيها، لم تقطع بعد.
لكن اللفتة الدولية التي تمنّن اللبنانيين بأنها تمنحهم استقرار الحدّ الادنى من دون ان تقدّم لهم «وصفات جاهزة» تنشلهم من حال التعطيل الذي اجتاح تدريجا الرئاسة الاولى فالثانية فالثالثة، ووصل الى حدّ تلويح تمام سلام جدّيا برمي الاستقالة بوجه الجميع، هي نفسها التي تتماهى مع كلام النعي الذي أطلقه السيد حسن نصرالله مؤخّرا حول عقم انتظار الحلول من الخارج، إن على الخط الايراني ـ السعودي او على الخط الاميركي والغربي، والنتيجة: لا رئاسة جمهورية قريبة، وما على «الخبراء» في التعايش مع التعطيل سوى الاستمرار في ذلك والتمسّك بحوار لـ «الشكل» فقط.
هو «ستاتيكو» طال وقد يطول أكثر. من ينتظر الرئيس الذي سيجلس على كرسيّ بعبدا يبدو كمن ينتظر وهما. في الوقت الضائع تبقى الانظار مصوّبة على قدرة المؤسّسات الامنية والعسكرية على مواكبة مرحلة قد تكون الاخطر على الداخل اللبناني منذ العام 2005.
في الشارع صار المشهد روتينيا. دعوات الى تظاهرات فاستنفار فتوقيفات، في وقت رسمت فيه القوى الامنية، بإيعاز سياسي واضح، خطّين أحمرين واضحين: ممنوع الاقتراب من السرايا ومجلس النواب. بـ «التي هي أحسن» يحاول عناصر وضباط قوى الامن ان لا يتحوّلوا الى كبش محرقة تحت سقف مرتبك من إعطاء الاوامر. مرّة تهاون ومرة تشدّد وقمع، ومرّة تملّص من الجهة الفعلية التي أعطت أوامر باعتماد القسوة، وأحيانا كثيرة تضييع المسؤوليات.
على خط مكافحة الارهاب نشاط زائد، ومن جانب جميع الاجهزة الامنية، في الكشف المتكرّر عن الشبكات الارهابية، ما يدلّل أيضا على ثبات الاجهزة الغربية والاميركية في التعاون الاستخباري مع لبنان ومدّه بما يلزم من عدّة الشغل للقيام بالمطلوب منه على هذا المستوى.
يبدو الجيش الذي مُدّد لقائده مرّتين، ولثلاثة ضباط كبار داخله، المعني الاكبر في تقديم «النموذج» بأن خيار التمديد، الذي لحق أيضا برأس المديرية العامة لقوى الامن الداخلي، كان صائبا وفي محله.
ليس مجرد تفصيل ان تعمد القيادة الى الكشف عن إحصاء رسمي حول عدد التوقيفات التي طالت شبكات ارهابية ومتّهمين بالارهاب مع تحديد الجهات التي ينتمون اليها، في إشارة الى دور الجيش النوعي في هذه المرحلة، خصوصا في ظل الشلل الرئاسي والحكومي والمؤسّساتي، والرهان ربما على دور أكبر له في هذه المرحلة التي توصف بأنها أمنية بامتياز. رهان يسوّق له اليوم مريدو قهوجي بنسختين: إما حكومة عسكرية، او انتخاب قائد الجيش رئيسا.
من جهتها تحرص القيادة في اليرزة على ابراز استمرار الدعم العسكري واللوجستي والاستخباري المقدّم الى الجيش في الفترة الماضية، خصوصا من الجانب الاميركي، الذي حافظ على الوتيرة نفسها، وربما أكثر، بعد التمديد الاول للعماد جان قهوجي.
على مدى أربعة أيام متتالية عقد قائد الجيش سلسلة لقاءات الاسبوع الماضي مع ضباط من الرتب كافة في اليرزة. هي محطة سنوية دأب عليها قهوجي في السنوات الثلاث الماضية في محاولة منه للتقرّب أكثر من الضباط ووضعهم في صورة الاجواء الاقليمية والسياسية وتعليمات القيادة الداخلية، لكنها أتت هذه المرة بعد الغبار الكثيف الذي لفّ المؤسسة العسكرية أولا على خلفية توقيع وزير الدفاع التمديد الثاني لقائد الجيش ولرئيس الاركان ثم بعد الخضّة التي أثارتها مسألة الترقيات العسكرية.
كعادته وضع قهوجي الضباط في المناخات السياسية داخليا وخارجيا، معتبرا ان ثمّة دولا مشغولة بحروبها وأخرى مشغولة بردّ هذه الحروب عنها، مبرزا أهمية الدور الكبير الملقى على عاتق «العسكر» لناحية المهمات الامنية والدفاعية شمالا وبقاعا وجنوبا وفي الداخل، وتحديدا في منع انتقال الحرب في سوريا الى لبنان، وإثبات الجيش الدائم قدرته على منع انفجار الوضع الداخلي ووأد الفتنة.
وأشار قهوجي الى الاجماع غير المسبوق على الجيش من جميع القوى السياسية في هذه المرحلة، مما يشكّل أحد أهم ركائز الاستقرار، إلا أنه لفت الى انه بسبب توقّف مجلس الوزراء عن الانعقاد وإقفال أبواب مجلس النواب، فان الترقيات ودورات الضباط قد توقفت.
بالمقابل، كان قهوجي واضحا في توقّع عدم حصول انتخابات رئاسية في المدى المنظور حتى لو ان توقيع الاتفاق النووي قد أدى الى حصول «تنفيسة» في المنطقة إلا ان تعقيدات اقليمية ودولية عدّة تمنع السير باتجاه التسوية الشاملة، مع تشديده على ان وضع المصارف جيد رغم الازمات الاقتصادية.
ومرّة أخرى كرّر قهوجي أمام الضباط، لكن بلهجة بدت أكثر حزما، المحظور الاول: ممنوع التقرّب من السياسيين والتزلّم لهم، مشددا على مسألة الانضباط والمناقبية العسكرية والتقيّد بتعليمات وتوجيهات القيادة لا السياسيين والحزبيين. وإذ وصف بعضهم بـ «سياسيي الصدفة»، كان حازما في التأكيد بأن قوة الضابط هي في عدم طرقه باب السياسي او الزحف باتجاهه، مؤكدا ان التشكيلات والتعيينات تتمّ وفق معياري الكفاءة والنزاهة وليس الوساطات، وهو لا يرضى بمن يأتيه من السياسيين مطالبا بنقل الضابط الفلان او تعزيز موقعه.