IMLebanon

التاريخ لم يبدأ معكم!

 

في آب 1975، أعلنت الحركة الوطنية اللبنانية بقيادة كمال جنبلاط وثيقة سياسية شاملة حملت عنوان: “البرنامج المرحلي للإصلاح السياسي” ومثلت تلك الخطوة محاولة جدية لتلافي وقوع لبنان في الحرب الأهلية المدمرة، ولكن ثمة عوامل عديدة محلية وخارجية حالت دون توافر فرصة حقيقية لتطبيق أي من بنودها، ودخل لبنان في النفق الكبير الذي امتد على مدى 15 عاماً وانتهى سنة 1990 من خلال التوصل إلى وثيقة الوفاق الوطني اللبناني التي عُرفت باتفاق الطائف بتفاهم أميركي – سعودي – سوري فأسكتت المدفع وأزيز الرصاص وكان الإنتقال التدريجي نحو الجمهورية الجديدة.

 

ليس المطلوب من هذه اللحظة السياسية إستعادة المحطات التاريخية التي سبقت الحرب أو تلك التي وقعت بعد اندلاعها، بقدر ما المطلوب الإشارة إلى عقم النظام السياسي اللبناني الذي بات أسيراً للوثة الطائفية والمذهبية التي تقف سداً منيعاً ضد أي تطوير أو تحديث له باتجاه العدالة الإجتماعية وصحة التمثيل السياسي والمساواة والتنمية المناطقية المتوازنة واللامركزية الإدارية (وليس المالية كما روّج البعض مؤخراً في نبرة تقسيمية متعالية ونرجسية).

 

إن استعادة سريعة لعناوين ذلك البرنامج تتضمن العناوين التالية: الطائفية السياسية هي السمة الرئيسية لتخلّف النظام في ظل غياب تام لصحة التمثيل ما يجعل البرلمان “موصد الأبواب”، لا سيما أن ثمة تناقضاً بين طبيعة التركيب الطائفي للنظام وبين حاجات التطور الديموقراطي، لذلك يدعو لإلغاء الطائفية السياسية في مجال التمثيل الشعبي والإدارة والقضاء والجيش وإقرار قانون إنتخابي جديد على أساس لبنان دائرة إنتخابية واحدة مع اعتماد النظام النسبي (مغاير للنظام الحالي المشوه) وخفض سن الإقتراع.

 

كما دعا إلى إقرار قانون موحد للأحوال الشخصية ومكافحة الفساد وتطبيق الضريبة التصاعدية الموحدة. وإزالة كل أشكال التمييز ضد المرأة والحفاظ على الحريات العامة وإصلاح الإدارة العامة وتطويرها. هذه بعض البنود السياسية التي تضمنها البرنامج والتي لم تشق طريقها إلى التنفيذ للأسف.

 

الغاية الأساسية من هذا الكلام ليست البكاء على الاطلال بطبيعة الحال، بل تذكير بعض حديثي النعمة في السياسة، إضافة إلى الثوار، أن ثمة تاريخاً نضالياً في هذا البلد لا يُمحى بشعار أو سياسة إستهلاكية شعبوية. ثمة قوى سياسية ناضلت في سبيل لبنان العربي الديموقراطي التعددي المتنوع المناقض ليس للكيان الإسرائيلي الآحادي الحاقد فحسب، بل أيضاً للكثير من الأنظمة الديكتاتورية العربية التي تساقطت الواحدة تلو الأخرى منذ سنة 2010 ولغاية اليوم.

 

صحيح أن القوى السياسية مجتمعة تتحمل مسؤولية ما عن المرحلة التي وصلت إليها البلاد، ولكن ليس صحيحاً أنها تتحمل هذه المسؤولية بالتساوي. فالقوى التي قادت ثورة 14 آذار لإستعادة الحرية والسيادة والإستقلال صنعت تحولاً تاريخياً في لبنان ولو أن الظروف لم تسمح لهذه الثورة بالإكتمال لإعتبارات تخرج عن الهدف من كتابة هذه السطور، إلا أن ذلك لا يلغي الصفحة البيضاء التي سجلّت في منعطف تاريخي حاسم.

 

خلاصة القول إن العمل السياسي هو عمل نضالي تراكمي بطبيعته، فليس ثمة محطات في التاريخ منعزلة بالمطلق عما سبقها من خطوات. الثورة التي انطلقت في 17 تشرين الأول الماضي هي نقطة تحول دون شك ولعلها كانت ضرورية في مكان ما لتحريك المياه الراكدة في اليوميات السياسية اللبنانبة، ولكنها تبقى محطة من المحطات، غير واضحة الرؤية أو المعالم.

 

لذلك، الدعوة موجهة إلى حديثي النعمة في السياسة، وإلى الثوار أيضاً، لإعادة قراءة تاريخ لبنان المعاصر واستخلاص الدروس والعبر بهدف البناء عليها نحو حقبة جديدة للبنان أكثر ديموقراطية وعدالة وحرية! التاريخ لم يبدأ معكم!