مؤسّس “عامل”… صديق الفرنسيّين الذي لم تستهوِه السياسة
على بقعة من هذه الارض من يعمل بصمت. لا يعاني من عقدة الظهور المتكرّر، ولا يطمح لموقع نيابي أو حقيبة وزارية رغم تلازم اسمه مع تشكيل كل الحكومات تقريباً. 55 عاماً أمضاها كامل مهنا في خدمة المجتمع من خلال “عامل”. تلك المؤسسة المنتشرة على كامل الأراضي اللبنانية، من دون قيد حزبي أو طائفي، حتى صارت نموذجاً للعمل الإنساني، مرشحة لجائزة نوبل للسلام. طبيب الأطفال العاملي، وابن الفلاحين البسيط المتعالي عن الألقاب يحاول من خلال “عامل” أن يؤسّس “لفكرة جديدة عن لبنان الجديد المبني على الانسانية والمواطنة”.
ولد كامل مهنا في زمن الاستقلال، في بلدة الخيام الجنوبية. أصرّ والده على تعليمه وإخوته فصار طبيباً في زمن كثر فيه الفقراء. عايش الحرمان وتسلُّط الاقطاع وكان عمره خمس سنوات يوم وقعت نكبة فلسطين عام 1948 واتخذ الفلسطينيون من بلدته ملاذاً آمناً، فزاد تقرّبه منهم وانتسب الى الثورة الفلسطينية التي لا تزال قضيته حتى اليوم.
لم ينس رغم مرور السنين عبارات ابن الزعيم الاقطاعي يشتم والدته “مخزون من المعاناة ترك أثراً في حياتي، فكان إصراري على أن أفتتح مركزاً لعامل في مناطق شعبية، وأحرص على تحصينها بأحدث التجهيزات وتحت إشراف أفضل كادر بشري انتقاماً من القهر الذي عايشته”.
إتحاد للطلبة في فرنسا
مساعدته لأخيه الطبيب في تضميد جراح المرضى جعلته يعشق مهنة الطب. اضطر والده لبيع قطعة أرض لتأمين كلفة سفره الى فرنسا للتخصص. عاش في مدينة ليون لكن عشقه للمدن الصغرى جعله يختار وصديقه حاتم ماضي بالقرعة اسماً من ثلاثة اسماء مدن أحبها فوقع الاختيار على مدينة غرونوبل التي عاش فيها اول حب افلاطوني لم يُنسِه حقيقة ما سافر لأجله “والدي ارسلني كي اكمل تعليمي واتخصص طبيباً وليس للزواج”. اعتذر من حبيبته وهاجر قاصداً مدينة أخرى تساعده على نسيانها.
كان قد بدأ في غرونوبل التأسيس مع الطلاب اللبنانيين لرابطة تجمعهم، فاصطحب معه الى مدينة تور، حيث إقامته الجديدة، النظامين الاساسي والداخلي. انتُخب مسؤول اللجنة الثقافية للرابطة التي أسست، ولاحقاً انشأوا الاتحاد العام للطلبة اللبنانيين في فرنسا وانتخب أمينها العام. بعدها بأسابيع استهدفت اسرائيل مطار بيروت وكان الجنرال ديغول رئيساً للجمهورية “فأرسلت له رسالة باسم الاتحاد لإدانة اسرائيل، واحتجاجاً على عدم ردّه قررنا احتلال السفارة في باريس 24 ساعة. أُخضعت بعدها للتحقيق وطلبت مني المخابرات التعاون معها فرفضت تسمية أسماء المشاركين”.
في 23 نيسان 1963 نظمت تظاهرة في منطقة البربير في بيروت، وسقط خلالها عدد من الشهداء نتيجة تعرّضها لاطلاق النار “فقرّرنا كاتحاد احتلال السفارة في باريس والقنصلية في مرسيليا. استدعتني “حماية الحدود” للتحقيق وصدر بحقي قرار طرد من فرنسا لاعتباري خطراً على الأمن. قررت عدم المغادرة واستنفرت أمين عام مجلس الطلاب العرب وصرت حديث الاعلام العالمي واعترض عميد كلية الطب على طرد طالب من دون إعلامه. نتيجة الاحتجاجات الغي القرار واكملت دراستي، وتقدّمت بامتحان للتخصّص بالجراحة في كندا لكني عدلت عن رأيي لاني كنت انوي العمل في الحقل العام واخترت التخصّص في طب الاطفال”. قبل عودته للتخصص في فرنسا عقد مؤتمراً صحافياً استنكاراً لوعد بلفور، فاستدعاه البوليس وطلب منه التوقيع على تعهد بألا يتدخل في السياسة “فرفضت ولهذا السبب ألغي عرض كنت تلقيته للعمل في أحد المستشفيات هناك”.
ولادة “عامل”
عاد طبيب الاطفال الى لبنان وكانت الحرب الاهلية قد اندلعت، وبدأ عمله في تل الزعتر والنبعة “كان القتل على الهوية فوضعت صورتي على هوية صديقي المسيحي”. وعملاً بشعاره “من لا خير فيه لأهله لا خير فيه للناس” قرّر النشاط في بلدته فافتتح مركزاً صحياً اجتماعياً في الخيام.
كان يتنقل يومياً بين النبعة وتل الزعتر لمعاينة المرضى، وخلال أحداث العام 76 اقفلت الطريق بين تل الزعتر والنبعة فبقي في النبعة وتسلم مستشفى الامام للمحرومين يعاونه فريق طبي من “أطباء بلا حدود”، غادروا بعد شهر ونصف بسبب الحرب”. بعد فترة طويلة كشفت له موظفة جزائرية في “عامل” أن “أطباء بلا حدود” أعدّت كتاباً من 1200 صفحة للحديث عن بطولات الاطباء واكتفت بكتابة سطر واحد عني”.
في العام 1978 واثر العدوان الاسرائيلي على جنوب لبنان، هُجّر أهالي الخيام، ولم يبق منهم الا 55 مواطناً من كبار السن قتلهم الاحتلال وفجر منزل العائلة. “انتقاماً، قرّرت تأسيس “عامل”، لكن انطلاقتها الفعلية كانت عام 1982 مع الغزو الاسرائيلي الثاني لبيروت الغربية والضاحية الجنوبية”.
لـ”عامل”، التي تقدمت للسنة السادسة الى جائزة نوبل للسلام، 28 مركزاً و30 سيارة إسعاف و6 عيادات نقالة وباصان جوالان و1200 متفرغ من بينهم 85 بالمئة صبايا لا ينتمون لا لحزب او معتقد او بلد، بل لكرامة الانسان وكل فرد منهم هو قائد “لا يمكن للمجتمع ان يتطور الا اذا كان كل فرد فيه مسؤولاً عكس ما هو سائد في بلدنا حيث القرار رهن شخص والباقي ينفذ”.
لمراكز “عامل” الجامعة في زمن الانقسام، معنى سياسي من خلال الحرص على انتشارها في مختلف المناطق اللبنانية لتغطية متطلبات كل فئات المجتمع بأطيافه وطوائفه “المقصود من هذا الانتشار تغيير الاسس الطائفية التي قام عليها لبنان منذ العام 1920. قرّرنا تقديم نموذج مبني على المواطنة والكرامة الانسانية وعلى الحقوق، أي حق الناس في التعبير والصحة والتعليم ومشاركة المرأة في المجتمع”.
يؤكد على اهمية التوازن بين القول والفعل” وهذا تعلمته منذ 67 اثناء دراستي في فرنسا وكنت اسمع احمد سعيد يتحدث عن انتصارات ونحن في حالة هزيمة فقلت يجب ان يكون هناك توازن بين القول والفعل ولم افعل كما فعل تشي غيفارا وجورج حبش بان اهجر مهنة الطب بل بقيت اعمل ضمن فكر راديكالي تغييري مدني ولم انتم الى احزاب وشعاري هو اسرائيل دولة عدوة، توثيق العلاقة مع الاصدقاء وتحويل المحايدين الى اصدقاء وتحييد الخصوم”.
يقول “تلعب “عامل” اليوم الدور المحرّك في لبنان والمنطقة والعالم، وقد تحوّلت إلى جمعية دولية تذهب من الشرق باتجاه الغرب. شعارها التفكير الإيجابي المستمر وتعمل على عناصر الجمع والتفاؤل المستمر. شعارها ثلاث ميمات: أي مبدأ، موقف، ممارسة: نفكر نقول ونعمل”.
55 سنة من العطاء ولم تستهوه السياسة التي يقسمها إلى قسمين: السياسة السواسوية التي تتحدث عن قضايا الناس من دون تطبيقها، والسياسة الحقيقية وهي سياسة من ساس امر الناس اي من دبّر امرهم “نحن نمارس السياسة الحقيقية التي تهتم بشؤون الناس، نعيش حياة بسيطة ونعتبر ان من يعمل في المجال العام يجب ان يعاني كي يستطيع تلمس معاناة الآخرين”. يعترف انه “من الصعب في بلادنا ان نصدق بوجود مستقل رافض ان يكون تابعاً لطرف انما رفضت تأسيس حزب لما يتطلبه ذلك من دعم خارجي وارفض اي دعم مشروط او توجيه تفكيري، وفخور اني لبناني جنوبي عربي مؤمن بقضية فلسطين وهذه خياراتي الصعبة”.
الترشح للنيابة
خاض تجربة الترشح للنيابة مرتين، عام 1992 في بيروت وفي العام 1996 منفرداً في الجنوب ونال 16 صوتاً. لكنه اليوم لا يفكر بتكرار التجربة مجدداً “فهمت اللعبة ومن يومها رفضت خوض الانتخابات رغم عروضات اتلقاها بتشكيل لائحة معارضة. ومنذ 25 سنة لليوم يتردد اسمي وزيراً مع تشكيل كل حكومة ولكني لا أريد شيئاً من أحد ولا أتوقع شيئاً من احد. وأقدم نموذجاً للتغيير مبنياً على الكرامة الانسانية”.
لا يعمل مع أنظمة، وبحكم صداقته الشخصية ربطته علاقات مع مسؤولين فرنسيين أبرزهم وزير الخارجية السابق برنار كوشنير الذي التقى معه على مقاعد الدراسة الجامعية، لكن علاقته بهم ندية. يرفض اي دعم خارجي ولو قبِل لكان بامكانه تأسيس حزب سياسي. في حزيران 2020، زاره وزيرالخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في مؤسسة عامل في حارة حريك، وكانت جلسة سادها العتب فلم يتردد مهنا في القول للمسؤول الفرنسي “ان لا مصلحة لفرنسا بانهيار لبنان ويجب دعمه لا تركه”. ولم يكن هذا الكلام بعيداً عما قاله للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي سبق وزاره في مركز عامل في عين الرمانة “اللبنانيون، مع الفلسطيينين، بنوا الخليج وقدموا نموذجاً للتضامن وانت زرت المرفأ وعاينت الناس المتضامنين وانا كلبناني اخجل ان اطلب منكم مساعدات. بلد كله طاقات بشرية يجب ان يكون التعاطي معه مختلفاً واليس عيباً ان تصبح الكهرباء والماء طموحاً للمواطن؟
يأسف لكون لبنان قد تحول الى مختبر “كل مشاكل المنطقة موجودة هنا والقرار بيد عدد قليل من الاشخاص لديهم علاقات مع الخارج يجب ان تستثمر لمصلحة لبنان”.
يفاخر بقيادته المقاومة الإنسانية عالمياً بعدما ازداد معدل الفقر وصارت قصص الفقراء في لبنان روايات مؤثرة، والسبب أن الخطاب في مكان والواقع في مكان آخر “مخجل ومعيب ان توصلنا الطبقة السياسية الى هذه المرحلة. ونعرف ان التغيير صعب ويلزمه وقت”.
في مواجهة الاستثمار المفرط للمجتمع المدني فإن عامل تجربة ديموقراطية للبنان المجتمع والمواطن يقول “المجتمع المدني بعد انهيار الاتحاد السوفياتي صار شماعة، السلطة لديها مجتمع مدني والمعارضة كذلك الامر. لا تعريف محدداً للمجتمع المدني، هو يضمّ أحزاباً ونقابات وبلديات، ولا يختصر في الجمعيات. ما نراه اليوم هو تجارة وجيش من الناس يبحثون عن رواتبهم ويتحدثون عن الديموقراطية بينما لا ديموقراطية من دون تنمية”. يوضح: “ما نراه من مؤسسات تسمى NGOS إنما هي جهات لها أجندة مع الخارج، أغلبها لم يحصل على علم وخبر وتسير ضمن خط سياسي. اليوم هناك تمويل وقوة سياسية لها مشروع سياسي يتم توظيفها، وهذه تختلف عمن حمى البلد ومنعه من الانهيار وهي مؤسسات عريقة ومعروفة”.