فيما الكلام على التكليف والتأليف، تحضرني ذكرى واحد من أفحل شعراء وكتاب العرب في هذا العصر، وأقلهم ذيوع صيت في آن: إنه المرحوم كامل شعيب العاملي، الذي مات وفي قلبه حُرقة وفي صدره غصة على رئاسة الوزارة في لبنان التي كانت بالنسبة إليه «حُباً مستحيلاً»، خصوصاً في مرحلة ما بعد الإستقلال، إذ «أُوقفتْ» رئاسة الوزارة على الطائفة السنية… وهو العرف الذي عاد النص الدستوري فكرّسه بعد وثيقة الوفاق الوطني (إتفاق الطائف).
عرفتُ العاملي عندما كنت، في بداية عهدي مع الصحافة، محرراً في جريدة «التلغراف» البيروتية ذات المجد الغابر. فقد كان يتردّد على صديقيه، هناك الصحافيين الكبيرين، يوسف أبي صالح وإبراهيم حداد… رحمهما اللّه، وكان كل منهما قد قطع أكثر من خمسين سنة صحافياً، بينما كنتُ في مطلع العشرينات من عمري أمارس الصحافة و«أهوى» دراسة الحقوق.
جاءني العاملي يوماً وفي يده سبحة مرجان ثمينة، وقال لي: «هذه هديتي لك. لقد قررت أن أعينك وزيراً للإعلام في الحكومة التي سأشكلها».
يومها، لم أكن أعرف أنه، رحمه اللّه، مصاب بعقدة رئاسة الوزارة الى حد المرض النفسي… الى أن أخبرني أبو صالح والحداد الحكاية، منذ أن تولى بعضهم في الثلاثينات تزوير «مرسوم» صادر عن المفوّض السامي الفرنسي، وختموه بغطاء المحبرة، وسجلوا عليه توقيعاً صورياً. وهو «ينص» على تكليف العاملي تشكيل الحكومة؟!
وما أن نقل «المرسوم» الى العاملي حتى توجه الى السراي مع ساعات الفجر الأولى و«احتل» مكتب رئيس الوزراء، وكان يومها المرحوم الشيخ بشارة خليل الخوري، الذي صار في ما بعد أول رئيس للجمهورية اللبنانية في عهد الإستقلال.
وللقارىء أن يتخيل ماذا حدث، الساعة الثامنة صباحاً، عندما توجه الشيخ بشارة الى مكتبه ليجد العاملي وقد إحتله!
وباستثناء هذه العقدة التي تحكمت بالرجل الى حدّ المبالغة (والقصص حولها لا تنتهي) فقد كان العاملي من أسياد الكلمة، ذا ثقافة واسعة، وذا وطنية صلبة، وذا إيمان دونما حدود بالثورة العربية في سبيل نهضة العرب من تحت نير الإستعمار والإستبداد والإنتداب (آنذاك)…
وعندما رحت أكتب أخباره في زاوية المجتمع وألقبه بـ«دولة الرئيس» من باب التفكهة، كان يُسرُّ جداً، ويأتيني في اليوم ذاته لصدور الجريدة وفي يده سبحة ثمينة يلقيها أمامي. وذات يوم جاءني وفي حوزته سبحتان متشابهتان في الشكل وليس في المضمون إذ لا يفرّق بينهما إلا الخبير: إحداهما ثمينة الحجر الكريم والثانية «تقليد». ولم يكشف لي سرّها… وناولني الأصلية وفي ظنّه أنها السبحة التقليد… وحمل الثانية «التقليد» (وفي ظنه أنها الأصلية) وتوجه بها الى «بطريرك العرب» الماروني المثلث الرحمات الكاردينال مار بولس بطرس المعوشي… وفي تقديره أن العكس قد حصل. إلا أن البطريرك الراحل (وكان حاد النظر كبير الخبرة في تحديد مقالع السبحات ومعادنها) قد تبين أنها السبحة التقليد… ومن نظراته أدرك العاملي حقيقة ما جرى.
وفي اليوم التالي، زارني العاملي، ولم يسألني عن السبحة لأنه شاهدها تتلألأ في جيد إحدى الفتيات، وكانت تزورني بدورها.
وإذ يذكر العاملي الشاعر الأديب، يطيب لي أن أتمثل بمقطع من قصيدته العصماء التي مدح بها فيصل الأول لمناسبة توقيعه المعاهدة مع «النمر الفرنسي»، الرئيس «كليمنصو». ومن أبياتها:
أآسادُ غيل أم كماةٌ بواسلُ لها الأعوجياتُ الطوالُ معاقِلُ
مشى في حواشيها النضالُ مخضّباً كما خُضِّبتْ فيه الجدودُ الأوائلُ
أمُرَنّحةُ الأعطافِ والمشرقُ آملٌ على غرةٍ للدهر والضربُ واجلُ
(…) يودّ هِلالُ الأفقِ رؤية وجهها ليشبه بدراً في السما وهو كاملُ
ونذكر أيضاً أن أحمد شوقي، أمير الشعراء، قال في العاملي:
قالوا أكاسرةُ القريض ثلاثةٌ ولقد أراهم أصبحوا بكَ أربعة
فتابع معروف الرصافي:
قد قال شوقي فيك إنك رابعٌ لثلاثةٍ قد أحرزوا الإكبارا
ماذا أفادك قوله في معشرٍ جحدوا النبوغ وكرّموا الدينارا.