خطأ شائع (2)
قال لي صديقي، إذا كانت عبارة حروب الآخرين، برأيك، خطأ شائعاً يوظفه أبطال الحرب الأهلية لتبرئة أنفسهم من المسؤولية، فما الذي يمنع من أن تفسر إشارتك إلى دور كميل شمعون في افتتاح لعبة الاستقواء بالخارج بأنها نوع من تقاذف الردود على من يتهم الناصرية أو الثورة الفلسطينية، أو نوع من زجل الشراكة اللبنانية التي تغلف المصطلحات الوطنية بغشاء من التكاذب، لكي يصدق عن عهد شمعون القول، والبادئ أظلم؟ لا هذا التفسير ولا ذاك. المسألة أكثر تعقيداً مما يظن المتبارزون على حلبة الصراع السياسي. ففي الحروب الأهلية لا يهم من يكون البادئ، ولا من يكون الأكثر قدرة على شحن النفوس. المهم هي النتيجة. ففي أهم البلدان، في أكبرها كما في أصغرها، لا شيء يحول دون اقتتال المختلفين سوى الدولة. وحين يتعطل دور الدولة تصبح الأبواب مشرعة أمام الحروب بالشعارات ثم بالتعبئة الإعلامية وبعدها تقام المتاريس وخطوط التماس. ساعتئذ يغدو زجل الشراكة والتعايش والعيش المشترك غير ذي جدوى ويصير “البادئ أظلم” خطأ شائعاً. اختلاف وجهات النظر في تحليل الوقائع ناجم عن اختلاف المعايير. معاييرهم الوطن القومي المسيحي والدولة الإسلامية والوحدة العربية، وهذه معايير تفضي إلى صراع بين مشاريع متعارضة في ما بينها ومتعارضة مع مشروع الدولة. ومعياري هو دولة القانون والمؤسسات. بمعاييرهم لا تاريخ موحداً للبنان. فهو في نظر بعضهم فينيقي الأصل، أو عريق في التاريخ أو قبل الأديان، وفي نظر البعض الآخر عربي أو إسلامي، وهو في عين المتعصبين للمشاعر القومية خطأ جغرافي وتاريخي، أو ثمرة مؤامرة حاكها اتفاق سايكس بيكو. تعدد المعايير حال دون الاتفاق لا على التاريخ ولا على المستقبل.
مئويته الأولى مليئة بالحروب. لكنها ليست حروب الآخرين، بل هي حروب المعايير المتضاربة والمتباينة. الاتفاق على معيار واحد لقراءة التاريخ اللبناني كفيل بإزالة كل الالتباسات المحيطة بتأسيس الكيان وبمصيره. تعالوا نجرب معيار الدولة. لبنان اليوم هو الذي تأسس عام 1920 وحمل إسم الجمهورية اللبنانية وهو على الأكثر الذي ترافق تأسيسه مع إعلان الدستور اللبناني عام 1926، بحدوده المعروفة ومساحته المقدرة بـ10452 كيلومتراً مربعاً. قبل ذلك كان مجموعة من الولايات الخاضعة للسلطنة العثمانية.
من حق المتحدرين من الولايات أن يتغنى كل منهم بتاريخ ولايته وبانتمائه السابق، وهذا شعور طبيعي، لكن تاريخ الجمهورية اللبنانية والدولة اللبنانية ليس حاصل جمع لتاريخ الولايات، وليس يحق له أن يلغيها لكنه بالتأكيد ينبغي أن يحل محلها. بمعيار الدولة لا فضل للبناني على لبناني، طائفة كان أم حزباً أم أفراداً وشخصيات إلا بمساهمته في ترسيخ بنية الوطن والدولة والجمهورية.
تاريخ لبنان يندرج في سياق صراع بين حضارتين، الرأسمالية بإنجازاتها العلمية والسياسية وبتوسعها الأفقي في كل القارات وفي أعماق المحيطات وفي طبقات الفضاء، وأنظمة السلالات الاستبدادية التي كانت تعيش على الغزو والأتاوات والاقتصاد الريعي. الدستور هو الحد الفاصل بين الحضارتين. الدستور هو الميزة التفاضلية بينهما. تخيلوا كم من الوقت تخلف العالم العربي عن عصر الدساتير، وكم من الوقت كان لبنان سبّاقاً. غير أن المتحدرين من الحضارة القديمة حملوا معهم أثقالاً من أبرزها تغليب المشاعر والعادات والتقاليد والانتماءات القديمة على القوانين الوضعية والمواطنية، فكان لا بد لهم من سلطة تشرف عليهم وتدربهم على الانتقال من حضارة الأرض والزراعة والقيم الإقطاعية إلى حضارة المصانع والمتاجر والقيم المتحدرة من اقتصاد السوق، إنها سلطة الدولة الحديثة.
فضيلة فؤاد شهاب على سواه من الرؤساء أنه جعل “الكتاب”، أي الدستور، مرجعاً وحيداً يحتكم إليه السياسيون وكذلك المواطنون. بنى مؤسسات الدولة ودرب اللبنانيين على المواطنة، فعاملهم، بصرف النظر عن انتماءاتهم السابقة، على قدم المساواة أمام القانون كمواطنين في دولة. لم يغفر له السياسيون خطأه حين منح جهاز المخابرات صلاحيات لا ينص عليها الدستور.
انجازات كميل شمعون عديدة، منها بناء القصر الجمهوري في بعبدا، مدينة كميل شمعون الرياضية، مرفأ طرابلس، مصرف لبنان، مطار بيروت الدولي، قصر العدل ونقابة المحامين، الاذاعة اللبنانية، تلفزيون لبنان والمشرق، مهرجانات بعلبك، كازينو لبنان، مغارة جعيتا، وربما كان من أهمها حق المرأة في الاقتراع وقانون السرية المصرفية، وغيرها كثير. لكنه حين ظهرت على السطح اختلافات اللبنانيين انخرط في صراع الميول المتناقضة بدل العمل من موقعه كرئيس للدولة والسلطة على تدريب الشعب اللبناني وتربيته على مغادرة انتماءاتهم القديمة وعلى احترام التنوع وحق الاختلاف تحت سقف الدستور.
في المقابل، استمر خصوم كميل شمعون يستخدمون ضده المعايير ذاتها، معايير الحرب الأهلية لا معايير بناء الدولة، حتى بعد خروجه من رئاسة الجمهورية، فاستهجنوا في البداية وسرعان ما اعترضوا على عودة إسمه مرفوعاً فوق صرح المدينة الرياضية بعد إعادة بنائها. لم يكن ذلك من قبيل الخطأ الشائع فحسب بل هو أقرب إلى الخطيئة بحق السلم الأهلي.
القول بأن لبنان خطأ تاريخي وجغرافي هو من الأخطاء الشائعة المبنية على قراءة مغلوطة لتاريخ لبنان. الغلط فيها أنها لا تعتمد الموقف من الدولة معياراً وحيداً. استحضرت معايير أخرى لتبرر الحركة الوطنية تضامنها مع الثورة الفلسطينية على حساب الدولة، ولتبرر قوى السلطة استدراج الأسطول السادس والجيش السوري والجيش الإسرائيلي، وليبرر “حزب الله” اليوم تغليب مصلحة المرشد الأعلى على مصلحة الوطن. غياب هذا المعيار هو الذي أفشل في السابق محاولات البناء وسيفشل بالتأكيد محاولات إعادة البناء. بل إن تغييبه المقصود في هذه الظروف وفي كل الظروف هو بمثابة قرع لطبول الحرب.