أمّي التي تجاوزت التسعين قلقة على مصيرها، والفكرة بحدّ ذاتها مُخيفة. ليس لأنّها فقيرة أو محتاجة أو لا مُعيل لها، ولكن لأنّها لا تريد أن تُهان في هذا العمر. لا تُريد أن تشعر بالقلق لأنّ الأدوية التي يحتاجها قلبها بدأت تنقطع من الأسواق، وهم يُهرّبونها الى سوريا.
لحظة، أمّي لا تتحدّث في السياسة، لكنّها تنقل واقع معاناتها من دون تحليل او تنظير.
تقول وكأنّها تُحدّث نفسها: كيف يأخذون منّا ويعطون حكّام سوريا؟ وهؤلاء الحكّام لم يعطوا لبنان شيئاً في أي يوم من الأيام.
لا يُخيفها فيروس “كورونا”، فهي تلتزم الإنعزال المنزلي والكمّامة والمعقّمات عندما تخرج على مضض، فلم يبق شيء يحثّها على الخروج أو البهجة.
وعندما تخرج، يُبهرها هذا الـ”لبنان” الصامد. لا تفهم لماذا يقتله السياسيون، تدعوهم الى تأمّل جمال طبيعته، وهي تقف عند مطلّ منطقة جبلية، وتتأمّل بهاء المشهد الذي يقطع الأنفاس وصولاً الى شاطئ البحر، وتتغنّى بالمنازل الحجرية الجميلة والعريقة، وبالأشجار المُعمّرة، وتقترح أن أكتب كلامها ليقرأه من يقتل لبنان.
تُقسِم أنّ ما نشهده اليوم لم نعش مثله خلال الحرب الأهلية، بكل فظائع القصف المجنون الذي أَودى بسمعِها، وتسبّب لها بالقلق حتّى اضطرّت الى تناول المسكنات.
لكنّ هذه الحرب لم تمنعها من تعليم أولادها في فرنسا، ولم تمنعها من تأمين منزل لآخرتها في قريتها الجنوبية، لطالما ستر العائلة الكبيرة في الأوقات الصعبة.
تسأل يومياً عن أسعار السلع. خزَّنت أرزاً وسكراً وعدساً وخِلافه.
تقول إنها تُفكّر في الفقراء الذين لم تعد تنفعهم “حسنة قليلة”، كما كانت الأحوال قبل فترة قريبة. فالخمسة آلاف لم تعُد تشتري ما يقيت الجائعين وجبة الغداء.
أمّا الكهرباء، فهي تتوقّع أن تنقطع لأنّ المازوت أيضاً يتمّ تهريبه. وقالت انها تدفع لمازوت المولّد ضُعف ما كانت تدفعه قبل شهر او شهرين. لذا اشترت ما تيسّر من الشمع. تؤدّي صلاتها وتبتهل الى الله أن يحفظ أولادها وأحفادها. وتُصرّ على أن المولى، عزّ وجلّ، سيُعاقب كل هؤلاء المجرمين الذين يتسبّبون بقتل شعوبهم وتجويعهم. يتصدّر الرئيس الأميركي دونالد ترمب بورصة اللعنات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ومعهما رئيس النظام السوري بشار الأسد الذي قتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري وخرب البلد.
صحيح أنها لا تُصدّق أن للسيد حسن (نصرالله) أي دخل بجرائم الاغتيالات، لكنّها تتّهم من حوله بها وبكل الكوارث التي تصيب لبنان… و..”على أحد أن يُبلغ السيد حسن عن هؤلاء، بالتأكيد هو غير عالم بما يرتكبونه باسمه، وهو لا يقبل بذلك”. ولا يَسْلَم حاكم مصرف لبنان من إتهاماتها، ويؤلمها كيف أّن ما اقتصدته على إمتداد العمر خوفاً من أيام سود، أصبح مُحرّماً عليها.
تُتابع تدهور سعر صرف الليرة، وتتلو بصوت عالٍ الشريط الإخباري أسفل شاشة التلفزيون. وعندما تقرأ خبراً عن رئيس الجمهورية ميشال عون، تقول إنّ لبنان عاش عصره الذهبي مع الرئيس الراحل كميل شمعون. أما عون، فهي لا تفهم لماذا يُصرّ على كرسي بعبدا، في حين آن له أن يرتاح، ويُريح الناس منه ومن صهره.