أربع محطات أساسية في مسار النواب إبراهيم كنعان وسيمون أبي رميا وآلان عون تحدد، وفق وقائع الماضي والحاضر، مصير تعاملهم مع الاستحقاق الرئاسي بعيداً عما يسوّق هنا وهناك
في انتخابات رئاسة حزب التيار الوطني الحر عام 2015، كان كثيرون من مناوئي المرشح إلى رئاسة التيار يومها جبران باسيل يعوّلون على دعم النائب إبراهيم كنعان لزميله آلان عون، نتيجة نفوذه، آنذاك، داخل «تيار المتن» (وهو ما ترجم بحلوله أولاً في دورتي 2005 و2009). غير أن نائب المتن لعب دوراً أساسياً في تأمين تسلم وتسليم هادئين بين الرئيس ميشال عون وباسيل، بناء على رغبة الأول، من دون انتخابات أو مضاعفات تذكر لانسحاب آلان عون بعد اجتماعه بباسيل في منزل كنعان. بعدها، لم يسمح نائب بعبدا لأحد (بما في ذلك أقرب المقربين منه) أن يأخذه خطوة واحدة أبعد مما يريد.
في انتخابات 2018 التي اعتمدت الصوت التفضيلي للمرة الأولى، لم يكن ممكناً وضع الثلاثي، عون وكنعان وسيمون أبي رميا، في سلة واحدة كما يفعل كثيرون. ففي جبيل، مثلاً، يوجد داخل التيار من هم «مع سيمون» ومن هم «ضد سيمون». لكن قراراً مركزياً حسم أمر الصوت التفضيليّ لمصلحة أبي رميا. خلال استقباله باسيل، لاحقاً، في بلدة اهمج، في 4 أيار 2019، قال أبي رميا في مديح رئيس الحزب ما لم يقله أي من زملائه في التكتل.
أما في بعبدا، فلا يوجد «مع آلان» أو «ضد آلان». الغالبية المطلقة هنا معه، وهو ما يتبين في كل استحقاق حزبي أو نيابي، ويُترجم استقراراً دائماً في العلاقة الإيجابية بينه وبين باسيل، مع ما يستتبع ذلك من تنسيق هادئ في ما يخص عمل مجلس النواب بحكم عضوية عون في هيئة المجلس، وكونه على تماس يومي مباشر مع الرئيس نبيه بري.
أما في المتن، فيسبق التوتر كل استحقاق حزبي أو نيابي ويتبعه، بحكم وجود «مع إبراهيم» و«ضد إبراهيم» من جهة، وتوزيع التيار أصواته على أكثر من مرشح حزبيّ من جهة أخرى. وهو ما كانت له تداعياته السلبية في كل الدوائر التي يوجد فيها مرشحون حزبيون جديون (كما في جزين بين زياد أسود وأمل أبو زيد، وفي كسروان بين شامل روكز وروجيه عازار، وفي عكار بين جيمي جبور وأسعد درغام). لكن حدود اعتراضات كنعان بقيت دائماً أقل توتراً في العلن من جميع الآخرين، ولا تنطلق كغيره من خلفية عدائية، بل العكس تماماً. إذ إنه كان، ولا يزال، يعتبر أنه يطالب بحقه، لا أكثر ولا أقل، في ظل نظرته إلى نفسه كرأس حربة أساسية للتيار في الملفات الاستراتيجية، كالملف المالي (الإبراء المستحيل) ومصالحة معراب (الانتخابات الرئاسية) والمعارك الانتخابية عامي 2005 و2009.
وإذا كانت رئاسة باسيل هي الاستحقاق الأول، مثّلت 17 تشرين الاستحقاق الثاني الأهم الذي واجه التيار، مع بدء الماكينة الإعلامية الممولة من السفارة الأميركية بضرب مواعيد انفصال كنعان وعون وأبي رميا عن التيار وانضمامهم إلى زملائهم السابقين شامل روكز ونعمة افرام وميشال معوض، في وقت كان هذا الثلاثي منخرطاً في خلية الأزمة التي أدارها الرئيس عون. ومع بلوغ الضغوطات على بكركي ذروتها لرفع الغطاء عن رئيس الجمهورية، كان كنعان أحد الأساسيين في تثبيت موقف بكركي الداعي إلى تلقف دعوات الرئيس إلى الحوار.
اللافت أن استراتيجية الثلاثة متشابهة إلى حد كبير في التعامل مع الهجمات لجهة الانكفاء الإعلامي وعدم «شراء المشكل» والاكتفاء بالحد الأدنى من الضرر العام من دون إصابات مباشرة. لكن ذلك لا يعني أن حركة آلان عون، مثلاً، لم تتضاعف على مستوى تيار بعبدا بعد 17 تشرين للحدّ من النزف. وبعد انفجار 4 آب في مرفأ بيروت، دخل الثلاثة في الاستحقاق الثالث. إذ بدت السفارات الأجنبية، لا سيما الفرنسية والبريطانية والألمانية، جازمة بحتمية انشقاقهم قبل أن يتبين أن حساباتها في مكان وحساباتهم في مكان آخر. ورغم رفض الثلاثة كشف حقيقة ما حصل معهم في تلك المرحلة، فإن المؤكد أنهم كانوا في تلك المرحلة عرضة لضغوطات هائلة.
المعزوفة نفسها تكررت بعد الانتخابات النيابية، مع ضم النائب أسعد درغام إليهم مرة، وزميله الياس أبو صعب مرات. وإذا كانت السمة المشتركة لكل هذه الإشاعات خروجها من المطبخ الأميركي، فإن الجديد اليوم هو تبني مطبخ آخر للإشاعات نفسها. وبعدما كانت هذه نظرية «الأميركي»، صارت نظرية خصومه. إذ لا يكاد يخلو «بوانتاج» رئاسي اليوم من وضعهم في هذه الخانة أو تلك. وبعد سنوات من اتهامهم بأنهم أقرب إلى قوى 14 آذار، أصبحت التهمة اليوم أنهم أقرب إلى حزب الله منهم إلى «تمايز التيار عن الحزب». وبعد إشاعة «ركبت» لسنوات عن وقوفهم خلف اتفاق معراب، أصبحت الإشاعة اليوم بأنهم سيخرجون عن إجماع التيار والقوات والكتائب على مرشح بغطاء من بكركي.
المفارقة أن من يعد الأصوات للمرشح سليمان فرنجية يحسبهم معه، ومن يعد الأصوات للمرشح جوزف عون يحسبهم معه أيضاً. فيما هم، وفق الوقائع المتراكمة لا الأمنيات، لا هنا ولا هناك، وأن بعض التخمينات عن حقيقة علاقاتهم الجانبية، في حال كانت لأحدهم علاقات، تنمّ عن جهل.
بعدما كان انشقاق الثلاثي العوني نظرية «الأميركي» صار نظرية خصومه
ما من شك، في هذا السياق، أن لثلاثي كنعان – عون – أبي رميا ملاحظات في ما يخص آليات اتخاذ القرار في التيار، وآليات التعيين، وآليات المتابعة مع الأحزاب والأفرقاء والمرجعيات، وآليات الدفاع والهجوم الإعلاميين، والأهم من هذا كله: آليات تشكيل اللوائح في الانتخابات النيابية وتوزيع الأصوات التفضيلية. وبعد إدراج كنعان ضمن المرشحين في لائحة بكركي، أضيف ما يضعه عون وأبي رميا في خانة «آلية اختيار الرئيس»، إذ يقولون بوضوح إن الأولوية يجب أن تكون لترشيح باسيل، أما إذا تعذر ذلك فيجب أن يختار التيار أحد أعضائه، وإذا كان البحث مع القوات أو غيرها ينطلق من مبادرة بكركي فإن الأقربين أولى بالمعروف، لافتين إلى أن كنعان، مثلاً، أقرب إلى التيار والقوات والكتائب من الوزير السابق جهاد أزعور. غير أن هذا لا يعني أنهم يتخيلون أنفسهم اليوم – كما يتخيلهم كثيرون – خارج التيار. وبعيداً من النوستالجيا التي يتحدث فيها الثلاثي عن التيار بوصفه تيارهم أولاً وأخيراً، فإن الواقعية السياسية والمصلحة الشخصية تدفعهم إلى التمسك بالتيار أكثر، خصوصاً حين يلقون نظرة على من أنهوا أنفسهم بأنفسهم عندما غادروا، رغم أن بينهم رموزاً لها أهميتها التاريخية والنضالية. هذه الفكرة، وفق تأكيد كنعان نفسه، «لم ولن تكون يوماً مطروحة، وهي غير منطقية أساساً».
في الاستحقاقات السابقة، كان تمايز ثلاثي كنعان – عون – أبي رميا يهدف إلى استيعاب الرأي العام المسيحي غير الحزبي الذي لا يريد تصادماً مع القوات، ولا يريد للتيار أن يكون على «يمين حزب الله». أما اليوم، فالانسجام تام بين موقف التيار والرأي العام نفسه المعارض لانتخاب فرنجية. وبالتالي، تخيل كنعان وأبي رميا وعون يسيرون ضد قرار التيار الوطني الحر والمزاج الشعبي المسيحي العام، مع الرئيس نبيه بري، أبعد من المستحيل بكثير.
تموضع بو صعب
عشية الانتخابات النيابية الأخيرة لم يلزم النائب الياس بو صعب نفسه بآلية اختيار المرشحين المتبعة داخل التيار الوطني الحر، من دون أن يؤثر ذلك في قرار رئيس التيار جبران باسيل بتبني ترشيحه. فرغم حساسية الأخير للمس بنظام التيار، بدا واضحاً مرة أخرى أنه يحق لبو صعب ما لا يحق لغيره. وفي مواجهة الضغوطات المتزايدة على بو صعب من جهتي الخليج والولايات المتحدة، تجاوز باسيل إلى كل ما يشاع عن فتور في العلاقة بينه وبين بو صعب، فعُيّن الأخير مستشاراً لرئيس الجمهورية في ملف الترسيم، مع ما يستوجبه هذا التعيين من ثقة. ورغم أن بو صعب حسم وحده قرار ترشحه إلى منصب نائب رئيس مجلس النواب، تلقف باسيل الترشيح وخاض المعركة معه. الأساس لدى بو صعب أن لا علاقة له بالاستحقاق الرئاسي.
ففي مقاربته للانتخابات النيابية الأخيرة، يرى أن التيار حرمه غالبية أصواته لمصلحة المرشح إدي معلوف، كون الأول بعيداً من التنظيم الحزبي والعلاقات الشخصية المباشرة مع المحازبين أسوة بمعلوف وكنعان. وعليه فإن نظام الانتخاب، وفق الصوت التفضيلي الواحد، يفرض عليه استقطاب الأصوات غير الملتزمة في التيار كما فعل كثير من المرشحين، مع ما يستتبعه ذلك من تمايز في الخطاب السياسي. وفي تقدير بو صعب أن خطاب «الحقوق المسيحية» أضرّ به وبالتيار، ولا يرى فيه فائدة شعبية بعكس الدولة المدنية وفصل الدين عن الدولة والزواج المدني الاختياري وغيرها من العناوين التي يمنحها الأولوية. وهو يشير في أحاديث خاصة إلى فصله بين موقعه كعضو في تكتل لبنان القوي وكنائب لرئيس مجلس النواب، وهو أقرب إلى الثاني من الأول رغم تمسكه بالأول، باعتباره ممراً إلزامياً للنيابة أولاً ونيابة رئاسة مجلس النواب ثانياً. مع العلم أن التضارب لم يحصل بعد بين الموقعين، لكنه مرجح للحصول في أية وقت، وعندها فقط سيتضح قرار بو صعب ورد فعل باسيل. ففي الجولات الانتخابية السابقة، صوّت بو صعب للوزير السابق زياد بارود رغم قرار تكتله التصويت بورقة بيضاء ولم يصدر أي رد فعل من باسيل، تماماً كما لم يصدر أي رد فعل على ما نقل عن لقاءات بو صعب في الولايات المتحدة، أو بعد قوله إنه سيصوت سواء لمعوض أو فرنجية إذا أمّن أي منهما 65 صوتاً. وحتى حين عصفت مواقع التواصل الاجتماعي باجتزاء موقف بو صعب عشية الحملة على باسيل بعد «معركة الساعة»، كان رد فعل باسيل بسيطاً جداً على نحو يؤكد أن العلاقة بين الرجلين أكثر تعقيداً بكثير مما يعتقده كثيرون.