تاريخ رئاسة الجمهورية يعيد نفسه منذ الطائف وحتى اليوم
قد لا نحتاج إلى الكثير من العناء لاستشراف ما سينتهي إليه الفراغ الرئاسي. من جلسة نيابية الى أخرى يثبت مجلس النواب أنّه ليس جاهزاً بعد لأداء دوره بانتخاب رئيس جديد للجمهورية. فالنواب، وكذلك المرشحون ينتظرون إشارة تأتيهم من الخارج. التقليد الذي صار متعارفاً عليه في لبنان، أزمة سياسية ومراوحة فكلمة سرّ. على مر العقود لم يثبت لبنان أهليته لانتخاب رئيسه إلّا في حالات محدودة. إبتداءً من عهد الرئيس الياس سركيس، اختبر الوزير السابق كريم بقرادوني الرؤساء بالمباشر، خلال فترة حكمهم، قبلها وبعدها، ورصد قواعد عدة مرتبطة بانتخابات رئاسة الجمهورية، يلخّصها بالتالي:
– في كل مرّة يحصل اتفاق داخلي حول رئيس الجمهورية يصبح دور الخارج ضئيلاً ولكن لا يختفي. عادة الخارج لا يعكر صفو الإتفاق في الداخل.
– وإن يحصل خلاف داخلي يصعب حلّه خلال المهل المحددة، يتدخّل الخارج بشكل علني، وليس عبر الديبلوماسية فقط. مثال ذلك، حين وقعت أحداث العام 1958 انقسم البلد وصار اجتماع القيادات مستحيلاً على عتبة موعد الإنتخابات الرئاسية، فاتفق الرئيس المصري جمال عبد الناصر والولايات المتحدة على انتخاب فؤاد شهاب. لم يكن شهاب مرشّحاً ولم يسبق أن طُرح اسمه لكنه عرف كقائد جيش كيف ينأى بالمؤسسة العسكرية عن الإنقسامات الطائفية. اذاً جاء انتخابه بفعل عوامل محض خارجية لكنّه أثبت نجاحه كرئيس للجمهورية بالنظر للإنجازات التي حققها.
– في الحالات التي لا يعود فيها الحل بالإتفاق الخارجي أو الداخلي وتقع أزمات سياسية مفتوحة نشهد تشابك جهات كثيرة لصناعة رئيس. أفضل مثال على ذلك، إتفاق «الطائف». وصلنا إلى نهاية عهد الرئيس أمين الجميل والإتفاق بين المسيحيين الثلاثة المرشحين للرئاسة بالغ الصعوبة (سمير جعجع وميشال عون والجميل الذي كان لديه مرشح) فأتى الحل بعقد مؤتمر «الطائف».
– في حالة نادرة تتوافق القوى السياسية على عقد جلسة انتخاب من دون التوافق مسبقاً على المرشح. إبان انتخاب سليمان فرنجية إتفق النواب على ترك الأمر للنواب كي ينتخبوا كلّ حسب قناعته. توقف انتخابه على صوت أدلى به في اللحظات الأخيرة أحد النواب على أثر اتصال تلقاه من عبد الناصر فعدّل خياره من سركيس إلى فرنجية وأحدث فرقاً في النتيجة.
التدخل الخارجي
يعني الحديث عن رئاسة الجمهورية في لبنان مسؤولية أولى للموارنة والمسيحيين. وحين نصل إلى وضع يختلف فيه المرشحون الموارنة ويصبح تلاقيهم مستحيلاً تنضج فكرة الإتفاق برعاية خارجية. يروي بقرادوني «على مشارف إنتهاء ولاية الجميل قصد سوريا مستطلعاً الحلّ انقلب عليه ميشال عون وسمير جعجع. كان اختراق اجتماعات الرئيس السوري حافظ الأسد مع ضيوفه ممنوعاً الا في حالة وقوع طارئ يتعلق بالضيف. دخل مرافق الأسد الإجتماع وسلمه ورقة صغيرة فتحها وتوجه إلى ضيفه قائلاً: «هول مجتمعين وعاملين إنقلاب عليك، كل الكلام لم يعد مفيداً، روح شوف شو بدك تعمل». فهم الجميل أنها لعبة سياسية، عاد لكنه لم يستطع فعل الكثير».
وما أشبه اليوم بالأمس، يعتبر الوزير السابق وعرّاب الرؤساء أنّ لبنان أقرب إلى وضعية أمين الجميل وأشبه بالفترة التي سبقت إنتخاب الرئيس ميشال سليمان مسيحياً «هناك مرشحون ثلاثة للرئاسة، جبران باسيل يهدد بالترشح، وسمير جعجع أعلن دعمه لمرشح ولكني أعتقد أنه بوارد الترشح. وسليمان فرنجية وهو أكثر من يعمل ظاهرياً وان لم يعلن ترشيحه بعد بإنتظار قرار «حزب الله». اذا بقي هؤلاء على وتيرة الإنقسام ذاته ولا يعترف أي منهم بالآخر فسنكون أمام أزمة سياسية لن تنتهي الّا بمؤتمر شبيه بالدوحة أو بطائف جديد».
وهل الدول المعنية بلبنان والتي هي في ذروة أزماتها الحادة مستعدة لإستضافة مؤتمر من هذا النوع؟
برأي بقرادوني «الموضوع يحتاج إلى سفير. تدخل الدول سهل، اللهم إلّا اذا تدخلوا ميدانياً. حينها ندخل في القرار الاستراتيجي. يوم قرر الأميركيون التدخل في لبنان عام 1958 كان قراراً استراتيجياً تلقفه عبد الناصر فتوافقا على انتخاب فؤاد شهاب. وحين دخل الجيش السوري عام 1976 كان بقرار استراتيجي في ضوء قمة الرياض».
يوافق الصديق الأقرب لرؤساء الجمهورية أنّ المرات التي كان فيها رئيس الجمهورية فخر صناعة لبنانية، قليلة: «يجوز أنّ إنتخاب كميل شمعون كان الأقرب للصناعة اللبنانية. انتخب بفعل اتفاقه مع كمال جنبلاط وصائب سلام وعبد الحميد كرامي».
بين السابق واللاحق
في حالات معينة وحيث ينجح عهد الرئيس المنتهية ولايته كان يلحظ تأثيره على الخلف «المثال على ذلك تزكية فؤاد شهاب لإنتخاب شارل حلو من دون أن يكون مرشحاً. كان كاتباً سياسياً في صحيفة الاوريون إستدعاه شهاب قبل عشرة أيام من نهاية ولايته وأبلغه أنت مرشح رئاسي ولا تبلغ أحداً بالأمر». في اعتقاد بقرادوني «لو نجح عهد ميشال عون بالمعنى الشهابي للكلمة كان يمكن لقراره أن يكون مرجحاً لانتخاب خلفه. ولكن هذا لا يعني انتفاء دوره لأنه يبقى رئيس جمهورية وله وزنه السياسي، ولكن الظروف حالت دون أن يتمكن من تقديم إنجازات تجعل عهده أَقرب إلى عهد شهاب. كان بامكانه ان يقرر ترشيح جبران ويؤمن نجاحه. حظوظ جبران موجودة لأنّ التيار موجود. خلافاً للاعتقاد عهده لم يفشل بل أنّ الظروف التي مر فيها كانت صعبة».
الناخب الأكبر
في الوقت الراهن، هناك فريقان يرجحان كفة الرئيس الجديد في لبنان وهما «حزب الله وطبيعي أن يخوض معركة ويجب ان يجد حلاً للإختيار بين مرشحيه والسيد نصرالله شاطر بهذه الامور، والمملكة السعودية من خلال سفيرها في لبنان، والتي قد تتجه إلى ترشيح سمير جعجع من دون أن يعني انها قررت ذلك، لكن يمكن أن تلعب لعبة ترشيحه».
منذ الإستقلال ولعقود مضت كانت تتقاطع مصالح الدول على التدخل في لبنان «مثلث تدخل دولي عربي بالتعاون مع جزء من اللبنانيين»، يقول بقرادوني، متابعاً: «دائما التدخّل هو عبارة عن تقاطع مصالح بين دولة أجنبية تستخدم معها دولة عربية بالاتفاق مع المرشح اللبناني وفريقه».
وإستناداً إلى تحليل الواقع، يختم بقرادوني: «اذا انتخب الرئيس من اليوم وحتى شهرين يعني أننا لم نتجاوز الحدّ المعقول واذا فشلنا نصبح أمام مشكلة ونحتاج إلى «دوحة» أو «طائف». أيّ تركيبة ايران والسعودية ودولة اجنبية». ولا يفوته التحذير من أنّ «الخلاف هذه المرة ليس طائفياً سياسياً بل مشكلتنا مالية اقتصادية. وفي حال عدم إنتخاب رئيس سنكون أمام مشكلتين حيث تنتهي ولاية حاكم مصرف لبنان ما سيؤثر حكماً على الليرة، ولاحقاً ستنتهي ولاية قائد الجيش فيصبح أمننا في خطر، ولذا يجب ان يكون عندنا رئيس والّا تتفلت الأوضاع من يد الجميع وتخرج عن السيطرة».