Site icon IMLebanon

بقرادوني: أخطأتُ حين “كبّرتُ الحجر” وتبوّأتُ رئاسة “الكتائب”

 

“صبورٌ وجلود وأعرف ما أريد ولستُ ثعلباً”

 

 

إنه كريم بقرادوني. لا يحتاج الرجل الى مقدمات وهو المثقل بالتجارب، الحلوة والمرّة، على مدى نحو 6 عقود ونيّف من العمل السياسي. ذاكرته حاضرة دائماً وهو يروي تفاصيل التفاصيل. إستمعنا إليه طوال أربع ساعات. لم يتعب هو ولم نملّ نحن. وكيف يمل المرء من بئر الأسرار؟ لكن، في خضمّ كل الأحداث والذكريات، هل وقف الرجل أمام المرآة وقال لنفسه: كريم لقد أخطأت هنا؟ أجاب بحسم: نعم، وجواب نفسي لنفسي كان: أخطأتُ حين تبوأت رئاسة حزب الكتائب اللبنانية. وهل سأل كريم كريم: اين أصاب؟ أجاب: بالتأكيد، نجحتُ في أن اكون أنا أنا في كل المراحل. هو الثعلبُ في الصفة وهو الماكر في الوصف وهو الصبور الجلود في رأي نفسه. لقاءٌ فيه نوستالجيا وحنين وبدايات وكثير كثير من الأحداث مع كريم بقرادوني.

 

في شقته، في الطبقة الرابعة من مبنى في منطقة الأشرفيه، أنشأ ما يُشبه الحديقة. الأخضر طاغ. والأوراق المبعثرة زاده اليومي. كريم بقرادوني أصبح يقرأ أقل من قبل ويكتب أكثر من قبل. وها هو ينهي آخر اللمسات على آخر كتاب سيصدر قريباً ويروي سيرة ميشال عون «إنه الكتاب الأصعب بين كتبه الأربعة». لم يختر له الإسم بعد لكنه فرح أنه سينتهي منه بعد مخاض طال.

 

نحار من أين نبدأ معه ونتركه يحسم: «فلنبدأ من البدايات وهي الأصعب» يقول ذلك مشيراً الى أن الإستذكار هو متعة له ويشرح «البدايات كانت أفضل بكثير من النهايات. كانت مليئة بالأمل والتحديات. التحدي الأول كان اسمي بقرادونيان. لم يكن أحد يلفظه كما هو. أتذكر أن أحدهم كان ينادي على الطلاب في أحد المخيمات العسكرية في مدرسة الجمهور. ناداني كريم بقرادون فلم أجبه. نادى على الآخرين وفي النهاية سأل: هل هناك من لم أذكر اسمه؟ رفعت إصبعي وقلت له: أنا كريم بقرادوني. أجابني: بلى ذكرتُ اسمك. فقلتُ له: لم تذكره جيداً. صاح وغضب وحدث شغب وأتت شاحنة محملة بالجيش من ثكنة الفياضيه. أخذوني أربع ساعات وضحكوا كثيراً حين استجوبوني وعرفوا ما حدث ثم أطلقوا سراحي».

 

هو من مواليد عام 1944 ويقول: «ولدتُ بعد الإستقلال بسنة واحدة في مستشفى الخالدي في بيروت، من أب أرمني وأم مارونية من قرطبا. والدي قرر أن يضعني في مدرسة أرمنية ووالدتي أصرت أن أدخل الى المدرسة اليسوعية. وساعدني أستاذ يدعى إميل يزبك من قرطبا لتعلم العربية ودخول اليسوعية. ومذاك بدأت التحديات. وأتذكر أن «مدموزيل أنطوانيت»- أنطوانيت قزي من غزير، كتبت على اللوح: أكلَ الولدُ التفاحةَ، وسألت عن إعراب التفاحة فأجابها الطلاب: مفعول به. ثم كتبت: أكلَ الولدُ التفاحاتِ (بكسر التاء) وسألت عن إعراب التفاحة هنا. سكت الجميع ووحدي رفعتُ أصبعي وأجبتها: جمع مؤنث سالم منصوب بالكسرة. نظرت الى الأولاد وقالت: أصبح الأرمني يعلمكم العربي. شعرتُ بالتحدي وقررت أن أثابر بتعلّم العربية. وهكذا بقيتُ في كل الصفوف، في كل المراحل التعليمية، الأول باللغة العربية. التحدي أمر فظيع في الحياة.

 

ثقافة الربع ليرة

 

الظروف ساعدتني. مكتبة الشدياق كانت قبالة مدرسة اليسوعية. وصاحبها كان يعير الكتب الواحد بربع ليرة لمدة أسبوع. صرتُ آخذ الكتاب وأعيده قبل أسبوع كي لا أضطر أن أدفع ربع ليرة إضافية. إستهوتني كتب شارلوك هولمز وعنترة بن شداد. ناداني الشدياق وقال لي: لماذا لا تأخذ نوعاً آخر وأعطاني كتاب «الأجنحة المتكسرة» لجبران خليل جبران. جبران رومانسي حقيقي. إستهوتني كتاباته وقرأتُ كل أعماله إلا كتاب «النبي». قال لي الشدياق: لا تقرأه الآن حين تكبر تفهمه أكثر. وسميت هذه المرحلة: ثقافة الربع ليرة. وفي صفّ البكالوريا حصلت على المرتبة الأولى في كل لبنان. إتصلوا بي من وزارة التربية. نزلت وقابلت جورج سعاده. كان يعمل هناك. قبلني وهنأني ومنحني باسم الوزارة مبلغ 500 ليرة لبنانية.

 

في العام 1958، كان بقرادوني قد بلغ من العمر 15 عاماً. وهي سنة كانت محورية في حياته. يقول: «كان بيتنا في سوق النجارين، بالقرب من سينما أمبير، الى جانب أول متراس للكتائب قبالة البسطة. وكان خالي كتائبياً مسؤولا عن المتراس. وكانت والدتي تحمّلني الطعام له وللشباب. كانت أسعد اللحظات بالنسبة لي. وذات يوم، أتى شاب اسمه شاكر عون وسألني: هل تريد أن تصبح كتائبياً؟ كانت الكتائب تحمينا في تلك اللحظة فقررت الإنتساب. وكان خوفي أن يعرف والدي ذلك، حيث كان من الطبيعي أن يكون الأرمني طاشناق. ولم يكن في الكتائب في كل لبنان مئة ارمني. أقسمت اليمين وأصبحت كتائبياً. وذات يوم، إستدعاني إبراهيم نجار وطلب أن أصبح امين سر طلاب الكتائب في الجامعة اليسوعية. وقبله قال لي شاكر عون: كريم انت قوي في اللغة العربية فكنّ أمين سرّ طلاب الكتائب في مدرسة الجمهور.

 

تحية…

دخل بقرادوني كلية الحقوق عام 1962 ونال إجازة المحاماة عام 1966. ويقول: «إكتشفت السياسة في الجامعة قبل أن أتعرف على محتواها مثلما دخلت الكتائب من دون أن أعرف عقيدتها. شاركتُ في الإنتخابات الطالبية في الجامعة أول مرة وفشلت. وأدركت لأول مرة أن الإنتخابات ليست بين «أحرار» و»كتائب» و»كتلة وطنية» بل بين يمين ويسار. لذلك، بدأت في قراءة كارل ماركس ولينين وهذا ما أدخلني الى السياسة من بوابة الفكر. قرأتُ عن الليبرالية أكثر. واثنان أثرا كثيرا في حياتي هما موريس الجميل وجوزف شادر. الأول كان يملك أفكاراً فيها خيال عن صورة لبنان الجميلة وبيروت مدينة الأديان وتعلمتُ منه تخيل المشاريع البراغماتية، في حين أن الثاني علمني القضايا الإجتماعية والمالية في لبنان. كنت أراه يكتب الموازنة بيده وهو أكثر نائب قدم مشاريع في مجلس النواب تحققت.

 

نسمعه يتحدث عن «معلميه» فنسأله: وماذا علمك الشيخ بيار الجميل؟ يجيب «الزعامة. لكنه لم يكن راضياً أبداً عن علاقتي الوطيدة مع موريس الجميل، ولم أكن عارفاً بوجود خلاف بين الرجلين، لكن، بعد فترة قال لي أمين (أمين الجميل): قلّل من روحاتك الى موريس.

 

أخبار أخبار وكثير من الأخبار تتوالى. نتمهل معه قليلاً قبل أن يتابع في السياسة بسؤاله عن لقب الثعلب الذي لازمه؟ يجيب: «لم أفهم يوماً ماذا يقصدون به. ولا أعرف ماذا يفعل الثعلب. لكن، أظن أنه بالعاميه سيئ. أنا لست ثعلباً بل إنسان صبور وجلود وأدرس جيداً خطواتي. ووصلت بتعبي.

 

نعود لسؤاله عن نظاراته السوداء السميكة فيضحك كثيراً قائلا: «حتى في الكاريكاتور كان يكفي أن يرسموا نظاراتي ليعرف الناس من يقصدون. أنا أحتفظ بجوزين من نفس كادر النظارات ولا أقبل التخلي عنهما. أما اللونان الأسود والبيج فيلازمانني. أحبهما.

 

تدخل منى زوجته. تخبره أنها ذاهبة الى الكنيسة فيقول: هي امرأة حاضرة جدا في حياتي. كانت الزوجة والأم والأب. وتشاركني حتى في السياسة (يضحك وهو يتابع سارداً): كان أمين زميلي في مدرسة الجمهور ودرسنا الحقوق أيضاً معاً وكنا نصعد الى تعنايل في آخر السنة لمراجعة كل الدروس قبل الإمتحان. أما علاقتي ببشير فكانت في البداية سيئة. كنا على خلاف مع العلم أننا كنا نجلس جنب بعضنا البعض في المكتب السياسي لأننا الأصغر سناً. هو لم يكن راضياً عن انفتاحي على فلسطينيين وسوريين. وأتذكر أن جوزف أبو خليل طلب مرة أن نتكلم سوياً. تكلمنا كثيراً وكان بشير يرى أن مكاني ليس في الكتائب.

 

لكن، حين بدأ بشير يفكر بالرئاسة أصبحنا أكثر قرباً. وقد ذهبنا ذات يوم معاً عام 1980 الى سوريا واجتمعنا مع ناجي جميل. كانت زيارة لها وجه عسكري من أجل العمل على إخراج المقاتلين الفلسطينيين من البقاع. لاحقاً، كان اهتمامنا منصباً على إيجاد شعار لمعركة بشير الرئاسية فكان: 10452 كيلومتراً. أردنا من خلاله التأكيد أن شعار بشير الوحدة لا التقسيم. ويومها بدأ يشعر بشير أنني مفيد. ويستطرد: أهم شيء تمكنتُ من خدمة بشير بجعله أكثر قرباً من الياس سركيس. والأخير أحبّ بشير جداً وأثرت عليه شخصيته الجاذبة. هو كان يعرف كيف يتكلم وكيف يجعل الجميع يصدقونه ويحبونه. كان رجلاً يتمتع بشعبية هائلة. وأتذكر كيف قرع ذات يوم أحد أبواب بيوت كرم الزيتون طالباً من إحدى النساء مرقوقة لبنة. ولن أنسى يوم هزّ رأسه بعدما شعر بحب الناس قائلاً لي: يا كريم لا أملك المال والوراثة السياسية ستكون لشقيقي أمين ووحدها محبة الناس رأسمالي. وذات مرة سألت بشير: ما هو الحلّ برأيك؟ أجابني: يحلوا عنا الإسرائيليين والسوريين والفلسطينيين.

 

هل يتذكر آخر لقاء جمعه مع بشير؟ نشعر وكأن كريم بقرادوني لا ينسى شيئاً ويقول: «آخر لقاء جمعني مع بشير كان في 12 أيلول، قبل يومين من استشهاده، وضمّ زاهي بستاني وجوني عبدو، وتلى ذلك لقاء بشير مع صائب سلام. أخبرنا حينها ما حصل بينه وبين سلام وكيف طلب منه الأخير أن يجلس على رأس الطاولة غير أن بشير رفض ذلك وقال له: ما زلت بشير المنتخب. ومن كانوا في اللقاء بين الرجلين نقلوا عن سلام قوله: ليتنا عرفناه من قبل لكنا صوتنا له. ويتابع بقرادوني: في آخر لقاء مع بشير قال: سجعان قزي سيكتب لي خطاب القسم أما زاهي فسيكون الى جانبي في القصر الجمهوري، وجوني سأسلمه جهاز الأمن العام الذي ستتوسع صلاحياته الى الأمن القومي، أما توتو (أنطوان) بريدي فسيكون محافظ بيروت أو محافظ جبل لبنان. «هورس» (فادي افرام) فسيستلم أمني الشخصي، ونازار نجاريان سيكون هو أيضا الى جانبي.

 

يعود بقرادوني الى الوراء قليلاً متحدثاً عن مشكلة تأمين النصاب في انتخاب بشير رئيساً «حلّ ذلك بأن طلب الياس سركيس ذلك شخصيا من رينيه معوض الذي لم يرد الحضور في البداية بسبب إهدن، ومن جهتي أتيت بصوتين لم يتوقعهما أحد واستمرا سريين حتى لحظات التصويت وهما خال زوجتي سالم عبد النور وفؤاد طحيني. وكان يسميهما بشير في البوانتاج «غروب منى». يضحك بقرادوني كثيراً وهو يخبر ذلك.

 

الكاتب

 

الأسماء التي تتقدم في ذكريات كريم بقرادوني كثيرة. نتمهل قبل اقتحام تلك التفاصيل بسؤاله عن أيامه الحالية. كيف يمضيها؟ يجيب: «ما زلت أمارس المحاماة. وأكتب كثيراً. الكتابة تجعل الأفكار أكثر وضوحاً. والمال لم يكن يوماً هدفاً في حياتي. إبني جهاد (النائب جهاد بقرادوني) يساعدني اليوم بدل أن أساعده. وأوشكت على الإنتهاء من كتاب ميشال عون وأريد ترجمته الى الفرنسية ولم أستطع حتى اللحظة أن أجد عنواناً له. وأحب اللهو مع أحفادي الأربعة: ماريا ويارا وكريم وتاش. وهناك حادثة مضحكة علمت بها للتو من أهل صديق حفيدي كريم. ولدهم ذهب الى البيت وقال لهم: تتحدثون عن كريم بقرادوني وهو الآن معي في الصف. نضحك مع بقرادوني كثيراً.

 

هو طيّب… وهو ماكر… صفتان تتكرران على الألسنة حين يسمع أصحابها باسم كريم بقرادوني. فهل هو طيّب أم ماكر؟ يجيب «لا، لست ماكراً لكنني أعرف ما أريد جيداً». هو متحدث جيّد ومستمع جيّد أيضاً. هو موسيقي يحب فيروز وإديث بياف وجورج موستاكي ووديع الصافي. وأكثر ما يُحبّ هو أغنية «بحبك يا لبنان». هو مؤمن لكنه لا يقوم بالطقوس الدينية كاملة. ومرتان يقصد الكنيسة: يوم الجمعة العظيمة وليلة عيد الميلاد.

 

اللقاء الأول مع عرفات

 

نعود معه الى المراحل السابقة. الى لقاءاته مع ياسر عرفات يوم كان لا يزال طالباً جامعياً. يقول: «لا أؤمن بالصدف في الحياة. وأتذكر أن اتحاد طلبة فلسطين هم من كانوا يساعدون اليسار في الجامعة اليسوعية. وذات يوم سألني أحدهم إذا كنت مستعداً أن اذهب معهم الى الأغوار في الأردن. وافقت على الفور. كان مخيماً كبيراً. وهناك إلتقيت ياسر عرفات. كنتُ أول كتائبي يراه في منطقة مسماة الأشرفية (يضحك من جديد). لم يكن الشيخ بيار يعرف بما فعلت. ويومها حكى عرفات عن لبنان كنموذج لحلّ القضية الفلسطينية. قال: نريد دولة فلسطينية يتعايش فيها المسلم والمسيحي واليهودي في فلسطين على أن نتعلم من التجربة اللبنانية. طلبتُ منه أن يتوقف الفلسطينيون عن تجاوزاتهم على الأرض اللبنانية فأجابني: لا خيار آخر أمامنا.

 

لماذا اختير هو لا سواه لذلك؟ يجيب بقرادوني «قالوا إنهم يتابعون حراكي الجامعي»ويستطرد» حين عدت الى لبنان ناداني الشيخ بيار وسألني: ماذا يعني تقرّبك من ياسر عرفات. أدركتُ حينها ان الخبر قد سُرّب. فأجبته: خفت أن تقول لي: لا تذهب. وعلمتُ بعد ذلك أن من نقل إليه الخبر هو السفير الأردني في لبنان الذي قال له: «ولو يا شيخ بيار تلتقون ياسر عرفات وليس الملك حسين». كدتُ أخربط علاقة الكتائب مع الأردن.

 

علاقة بقرادوني مع عرفات تطورت ويقول «أرسل الرئيس الفلسطيني أبو حسن سلامه من قبله ليجول على القيادات المسيحية في لبنان. وهذا ما حدث. إلتقى كميل شمعون وبيار الجميل وأمين الجميل أما بشير فرفض اللقاء به. وأبو حسن كان «شبوبية» ويتقن عدة لغات. وتبع ذلك أول لقاء بين بيار الجميل وأبو عمار عام 1973. ويستطرد بقرادوني قائلاً: بعد زيارتي الأغوار قصدني عاصم قانصو وقال: معقول ذهبت الى الأغوار ولم تذهب الى دمشق؟ سأؤمن لك موعداً مع عبد الحليم خدام. وكان الصراع يومها بين أبو عمار وحافظ الأسد على أشده. أخبرتُ الشيخ بيار بالدعوة فقال لي: إذهب. إلتقيت مع خدام وبدا رجلاً صعباً للغاية وانتهى اللقاء بقولي له: نحن ضد الوحدة مع أي دولة عربية ومع سوريا ومع أي كيان آخر.

 

أستاذ آخر علّم بقرادوني في مراحل حياته يستذكره حتى اللحظة بإعجاب: السيد موسى الصدر. ويقول: «كنت أراه مرتين أسبوعياً في منزله في الحازميه. كان يملك جملتين أدهشني بهما: لبنان وطن نهائي. والحرمان يجمع كل الطوائف. كان معلّم الثورة الإيرانية…

 

ماذا عن علاقة بقرادوني مع ميشال عون وسمير جعجع؟

 

يتذكر «أن بشير إشترط ذات يوم تسليم ميشال عون رئاسة اللواء الذي سينتشر على طول خط تماس بين منطقة الصيفي ووادي شحرور. قفز حينها جوني عبدو من مكانه وقال له: شيخ ألا تعرفه؟ هذا أخوت وينفذ على ذوقه. أجاب بشير: أعرفه جيداً وأعرف أنه قد يفعل ما هو غير متوقع وإذا هجموا من الطرف الآخر سيعطي الأوامر بإطلاق النار. ويستطرد: أتذكر أيضا أن ميشال عون سأل بشير عن الوضع قبل الإنتخابات الرئاسية فأجابه: هناك حالة من إثنتين: إما أن يفهموا علينا وأصبح رئيساً لكل لبنان أو لا يفهموا وحينها نمسك نحن والجيش اللبناني المنطقة وليأخذوا وقتهم ليفهموا. ردّ عون: نحن وأنتم لن نندمج فلتحرص على الإختيار الأول. حينها علّق بشير على ذلك الحديث قائلا: شو هالجيش. هو الوحيد في العالم العربي الذي نطلب منه أن يستلم فيقول: ما بدي.

 

نصل الى سمير جعجع. العلاقة بين الرجلين شهدت صعوداً وهبوطاً. فماذا عنها قبل واليوم؟

 

يقول بقرادوني «علاقتنا كانت ممتازة منذ العام 1972 حتى 1982. سمير كان يعقد إجتماعاته مع نادر سكر هنا – يدل الى غرفة جانبية – وبعد استشهاد بشير كانت هناك ثلاث قوى حاضرة: سمير وإيلي حبيقة وفادي افرام. وحين أتى أمين بعد رحيل بشير أراد أمين إلغاء الميليشيات وضمها للجيش. غلطة أمين أنه قرر وأراد من الشباب التنفيذ. كان عليه ان يتريث لكنه بدا مستعجلاً ومستسهلاً القرار. شخصياً، راجعتُ أمين الجميل وأخبرته أن الشباب ضحوا وبشير كان يريدهم. ويستطرد: عند إنتخاب الكتائب والتنافس بين جورج سعاده وسمير جعجع وقفتُ مع سعادة. وأتذكر أن سيمون الخازن يومها عرض علي أن أستلم الأمانة العامة في الحزب. أخبرت سمير فطلب مني التريث. لكنني قلت له: أتركهم يهتمون بالكتائب ويجمعون التقليديين و»الختياريي» بينما اهتم أنت بالقوات والشباب. صوتت يومها الى جانب سعادة

 

لحّود ساعدني

 

لاحقاً، هل هو السوري من سهّل طريق كريم بقرادوني الى رئاسة كتائب الصيفي؟ يجيب «ساعدني إميل لحود. هو صديقي ونلتقي بشكل مستمر. طبعاً، هو سياسياً مع المقاومة وسوريا». نقاطعه بسؤال: كريم بقرادوني أين أخطأ؟ ماذا يقول لنفسه في المرآة عن ذلك؟ يجيب «أخطأت كوني كبّرت الحجر وطمحت كثيراً. غلطتي أنني غير الماروني قررت أن أصبح رئيس حزب الكتائب».

 

من يعمل يُخطئ. نعترف بذلك. نصغي إليه ونحن ننظر الى أصابع والإحتمالات الثلاثة التي يكرر الإستعانة بها في محاوره. فماذا عنها؟ لماذا يكرر دائما الحديث عن احتمالات ثلاثة؟ يجيب «هذا أمر منهجي. علموني في المدرسة أنه حين نتكلم في التاريخ علينا أن نتحدث عن البداية والصعود والنهاية. وحين نحلل نستخدم إحتمالين فقط: المقدمة والنهاية.

 

فهمنا الآن سرّ كثرة الإشارات والإحتمالات في حديثه.

 

يعيدنا بقرادوني الى سمير جعجع ليتحدث عن الرجل – الصديق. يخبرنا يوم دقّت ستريدا جعجع الباب في الأشرفيه وقالت له (وكان قبلها على خلاف مع الحكيم): يطلب منك الحكيم أن تدافع عنه في قضية رشيد كرامي إذا «بدك وقادر» ويمكنك أن تستشير من تريد قبل أن تجيب. يتابع بقرادوني: دخلت الى غرفة مجاورة وسألت زوجتي منى وولدي جهاد وجواد: هل توافقون. أجابوا بالإجماع: نعم. خرجت إليها وقلت لها: قمت باستشاراتي وجوابي نعم. سألتني من استشرت بهذه السرعة؟ قلت لها: عائلتي. هي اعتقدت أنني سأستشير إميل لحود الذي جنّ حين عرف. نبيه بري قال لي أيضاً: ما لك وله؟».

 

سؤالٌ بديهي: كم وثق كريم بقرادوني ببراءة سمير جعجع في قضية رشيد كرامي؟ أجاب «بحثت عن إمكانية أن يكون هو من قرر فلم أجد أي مبرر لذلك. فماذا استفاد؟ ولا شيء. كل قضية نسأل فيها عن استفادة المنفذ. في حالة سمير جعجع لم يفده موت رشيد كرامي بشيء. وقناعتي أن سمير لم يفعلها وهو دفع الثمن عن الجميع».

 

بعد براءة سمير جعجع في القضية دقت ستريدا مجدداً على باب آل بقرادوني حاملةً لوحتين جميلتين من أفريقيا كهدية هما الآن في صدر دار كريم بقرادوني. فهو أبى أن يتقاضى فلساً واحداً لقاء دفاعه عن جعجع.

 

هل هو يقابل سمير جعجع في هذه الأيام؟ يجيب: أقابلة أحيانا حين أصعد الى البيت الجبلي في غدراس. وآخر مرة طلبت أنا أن أراه من أجل طرح سبعة أو ثمانية أسئلة عليه لاستكمال كتابي عن ميشال عون. أرسلت له الأسئلة. وحين التقيتُ به طلب أن يجيب عن كل الأسئلة بشكل عام. أجاب وهو يمشي. سمير جعجع إنسان وجداني. وفي النهاية قال لي: سأرسل لك الإجابات مكتوبة.

 

كريم بقرادوني يملك من التاريخ المعاصر تفاصيل لا تنضب. وهو يستعد، ما إن ينهي آخر اللمسات على كتابه الأخير، للشروع بكتابة مذكراته. علب الكرتون كثيرة في الغرفة المجاورة. وتضم الكثير الكثير من التفاصيل التي يدوّنها بيده. وعلى جدران البيت كثير من الصور التي تعشقها زوجته. إنها صور الأحفاد. وقبل أن ننهي يخبرنا عن أحداث 1968 في فرنسا. يخبرنا عن كميل زياده ورينيه أبي راشد وبيار بو صعب وسمير فرنجيه… تلك المرحلة في فرنسا طبعته أيضاً. هي تجربة أخرى أضافت الى تجاربه الكثيرة التي تعلّم منها الكثير فقيل فيه ما يقال بالمحنّكين الأذكياء : الثعلب.