في ذكرى اغتياله الثانية، يمكن العثور على الردود الإيرانية التالية على مقتل الجنرال قاسم سليماني مطلع عام 2020.
اختراق إلكتروني لموقع صحيفة «جيروزاليم بوست»، ودعوة إيرانية للأمم المتحدة لاتخاذ خطوات رداً على الاغتيال، وتصريح سياسي يحمِّل إدارة الرئيس جو بايدن المسؤولية عن الاغتيال بقدر تحميلها لسلفه.
فقط لا غير!
المدهش أن تتزامن هذه الذكرى مع تسريبات شبه رسمية إسرائيلية، تقر وتعترف بأن لإسرائيل دوراً في عملية الاغتيال، لا سيما لجهة تزويدها الاستخبارات الأميركية ببعض «داتا الاتصالات» المتعلقة بهواتف سليماني الخلوية. هنا أيضاً تدفن نعامة الثورة رأسها في رمال التقية.
ولئن كان من نافل القول التعريج على اغتيال أكبر مهندسي الملف النووي الإيراني محسن فخري زاده داخل إيران، مضافاً إلى التفجيرات والحرائق التي تصيب منشآت حيوية إيرانية مرتبطة بالبرنامج النووي أو بالبرنامج الصاروخي، تبقى لاغتيال سليماني خصوصية مهمة في قراءة سلوك نظام الملالي.
قبل اغتياله، كانت الصحافة الأميركية الليبرالية تعج بالتقارير والمقالات حول مخاطر الحلول العسكرية مع إيران، والتي كانت كثيرة الورود في تصريحات شخصيات مثل وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، ومستشار الأمن القومي السابق جون بولتون، كما أنها تتناسب مع المزاج الناري للرئيس السابق دونالد ترمب، وشهيته للخطوات غير المسبوقة من قبل أسلافه.
بُنيت عبر مئات المقالات والتقارير والإحاطات، عمارة هائلة من رهاب الحل العسكري مع إيران، حتى يشعر من يعود إليها اليوم، بأنه يقرأ عن الاتحاد السوفياتي النووي في عز قوته. واللافت أن أياً من هذه الأصوات لم يُجرِ الحد الأدنى من المراجعة النزيهة لما ذهب إليه من تحذير وتهويل، بعد أن تبين أن اغتيال سليماني انعكس في الواقع إضعافاً لإيران وتراجعاً في حضورها طوال عام 2020، الذي تميز أيضاً بفتك «كورونا» بالجمهورية الإسلامية، بقدر ما أتاح متنفسات جديدة في الإقليم؛ لا سيما في العراق.
كل التقارير التي حذَّرت من مخاطر الاحتكاك العسكري مع إيران، بدت كلاماً فارغاً، بعد الاغتيال العبقري لقاسم سليماني، لا بوصفه اغتيالاً لأهم أعمدة النظام وحسب؛ بل بوصفه اغتيالاً لمستقبل النظام الإيراني الذي كان يعد له المرشد علي خامنئي بعناية شديدة.
فالأرجح، لو قُدِّرت له النجاة من حقبة ترمب، أن يكون سليماني على سكة أكيدة للوصول إلى سدة الحكم كرئيس للجمهورية، مصحوباً بتعيين مرشد جديد من بطانته الخاصة، هو مجتبى خامنئي، نجل علي خامنئي. كان هذا أحد السيناريوهات الأبرز التي يُحكى عنها في طهران وخارجها، كزواج بين أبرز شخصيات «الحرس الثوري»، وبين «بيت خامنئي» الذي يعد من أكبر وأثرى البيوتات السياسية في إيران. فخامنئي -بحسب تقرير مفصل لـ«رويترز» نشر عام 2013- يعد المسؤول الوحيد لمنظمة «ستاد» واسمها الكامل «ستاد إجرايي فرمان حضرت إمام»، أو «هيئة تنفيذ أوامر الإمام»، وهي أنشئت بموجب مرسوم وقَّعه الخميني قبيل وفاته عام 1989، لإدارة وبيع العقارات التي تركها مالكوها بعد ثورة 1979.
وتشير «رويترز» إلى أن «ستاد» أصبحت كياناً تجارياً عملاقاً يملك حصصاً في كل قطاعات الاقتصاد الإيراني، وبقيمة إجمالية تصل إلى 95 مليار دولار، وفقاً لحسابات أجرتها «رويترز»، استندت فيها إلى تحليل لتصريحات مسؤولي الهيئة، وبيانات من سوق طهران للأوراق المالية، ومواقع الشركات على الإنترنت، ومعلومات من وزارة الخزانة الأميركية.
أنهى الاغتيال مشروعاً بهذا الحجم، من دون أن تتجرأ إيران على رد؛ بل عادت وانخرطت في سياق دبلوماسي مع واشنطن نفسها، وراحت تغازل عواصم الإقليم بحثاً عن مخارج لشعب جائع يزيد تمرداً وانتفاضاً.
ويشهد العراق بشكل خاص على حجم الارتباك الذي يعصف بسياسة إيران الخارجية منذ اغتيال سليماني، وفداحة الأثر الذي تركه الاغتيال على الإدارة الإقليمية لنظام الثورة. ولكن هنا أيضاً تثابر الأصوات الليبرالية الأميركية، خلافاً للوقائع على الأرض، على القول إن اغتيال سليماني لم يردع ميليشيات إيران في العراق؛ بل زادها تمرداً وتصلباً. ما يفوت هذه التحليلات، المدفوعة بعداء آيديولوجي لإدارة ترمب، والترمبية السياسية في الحياة السياسية الأميركية، أن بروز اسم مصطفى الكاظمي رئيساً للوزراء، ما كان ممكناً في ظل وجود سليماني. الكاظمي وُلد في لحظة ارتباك إيرانية هائلة أنتجها الاغتيال، وفي لحظة فوضى ضربت خيارات ميليشياتها في العراق، من دون أن يكون خلف سليماني، إسماعيل قاآني، المتخصص بملف أفغانستان والجاهل تماماً بتعقيدات العراق، قادراً على التوفيق بين صراعات النفوذ الميليشياوية. وخلافاً لما تصر عليه التقارير الليبرالية الأميركية، فإن هذه الميليشيات اليوم هي أضعف من ذي قبل، وليس أدل على ضعفها من عدم قدرتها على فرض أي تغيير حقيقي على نتائج الانتخابات التي أفرزت هزيمة مهينة لميليشيات إيران وجماعاتها.
الذكرى الثانية لاغتيال سليماني، في لحظة تعثر المفاوضات النووية، أو الأدق: في لحظة تلاعب طهران بالمفاوض الأميركي، واستغلال الانطباع عنه بأنه مستميت للوصول إلى اتفاق أياً كان الثمن، تحمل دروساً مستفادة لمن يريد النظر إلى إيران بعين الوقائع لا بعين من يريد عبر إيران أن يصفي حسابات سياسية وآيديولوجية خاصة.
إيران تفهم لغة القوة أكثر من أي لغة أخرى. وتهاب القوي أكثر مما تهاب أي شيء آخر. وتستجيب للضغط أكثر مما تستجيب للإقناع.
وهذا ما يفسر هوسها بصورة القوة التي تثابر على تصديرها، أكانت صواريخ وهمية، كفضيحة «الفوتوشوب» قبل أعوام، أو صور الطائرات التي تنتجها، وما هي إلا مجسمات أو إعادة طلاء لطائرات أميركية من زمن الشاه. قوة إيران هي ميليشياتها في المنطقة؛ لا سلاحها النووي، وقاسم سليماني هو أهم صواريخها بهذا المعنى، وغيابه عن الساحة أهم من تدمير برنامجها النووي بما لا يقاس.
الأهم من ذلك، أن قوة إيران غير التقليدية هي الأصوات الليبرالية في الإعلام الأميركي التي تلعب لعبة مكبر الصوت والصورة لدولة فاشلة، تمتلك كل أدوات التخريب الممكنة، وتعجز عن أن تكون جزءاً من أي استقرار في الإقليم.