Site icon IMLebanon

مشاهدات من الصيفي

 

 

خَفت وهج بيت الكتائب في الصيفي، ولم يملأ أحد الفراغ الذي تركه المؤسس بقامته الكبيرة وصوته المميز وخطابه الوطني العالي النبرة، الصريح والهادئ في آن. توالى من بعده رؤساء عدة، لم يتمكنوا من الحفاظ على دور كَسبه الحزب نتيجة مواقف تاريخية بدأت مع نضاله ضد الفرنسيين من أجل الاستقلال منذ ثلاثينات القرن الماضي، حتى تَحوّله الى ركيزة القوى المسيحية ورأس مقاومتها في وجه التعديات الفلسطينية والهيمنة السورية في السبعينات وما تلاها. الذين توالوا على كرسي المؤسّس كانوا في غالبيتهم من رجال الظل، لم يسترجع أحد منهم الوهج للبيت المركزي، ومرور بيار الحفيد كان سريعاً ولم يتسنّ له الوقت.

 

هذا الدور التاريخي الذي أدّاه الحزب منذ مطلع السبعينات، لا سيما خلال حرب 1975، مَهّد لظهور بشير الجميّل، الذي يبقى بالنسبة للكتائبيين والقواتيين معاً أيقونة يتنازعونها، وإن حاولت قيادات من الحزبين في مراحل معينة تشويه صورته وفي أحسن الحالات وضع اليد على تراثه.

 

يبدو سامي وكأنه يحاول السير على خطى بشير. فقد سبق له أن تمرّد على والده وعلى الحزب في بداياته السياسية، تماماً كما بشير الذي استقلّ كلياً عن الحزب ليؤسّس القوات حاملاً معه ركائز كتائبية مختارة. غير أنّ الظروف فرضت على سامي أن يتسلّم حزب الكتائب بكل إرثه الإيجابي والسلبي، فلم يستطع القفز فوقه كما بشير، كما عجز عن تغييره بالشكل الذي يحلم به. فلا هو اليوم بحزب جديد ولا بقي ذلك الحزب التاريخي. وظروف ما بعد الحرب لم تسمح له بالامتداد الى المواقع التي كان قد وصل اليها الحزب سابقاً، فبقي في إطار شعبية محدودة في بيروت وجبل لبنان حيث امتداد القوات اللبنانية. لذلك، يبدو التمايز عن القوات التي يتنافس معها على الشارع نفسه، ضرورة حيوية، فبَدا خطابه الصدامي معها ضرورة تسويقية وإن كان لا يُرضي القاعدة المسيحية التي تحلم دوماً بتوحيد الصف لعلّ ذلك يعيد الدور المفقود.

 

ليس سامي كما الجد المؤسس الذي تسنّى له جَمع الكثير من النُخَب حوله في كل مراحل الحزب طوال عقود، ولا هو بشير صاحب الكاريزما المميزة. فلا هو امتلك الوقت لإعادة التأسيس على غرار الجد، ولا تقليد بشير في الخطاب الارتجالي وفي الصوت العالي النبرة يبدو متناسباً مع صورة سامي. بشير جاء من خلف المتراس، أما سامي فمن مقاعد الجامعة ومن نشاطات تَجمّع شبيبة لبناننا.

 

الصورة التي يلبسها قد تصحّ لحزب لبناننا أو لحركة شبابية كشفية، بينما تراث الكتائب مختلف وتاريخها ثقيل ومتشعّب يتطلب هدوءاً ودبلوماسية وفتح حوارات في كل الاتجاهات الى جانب النضال. فهو حزب غني بماضيه، وإنجازاته السياسية المتنوعة يَشهد له أخصامه بها. يصحّ أن تعود الصيفي طاولة تلتقي حولها النخَب والمفكرون وحركات الشباب، من المسيحيين والمسلمين، كما من مسؤولي الأحزاب اللبنانية على اختلافها، للنقاش في بناء لبنان ما بعد الحرب وبحثاً عن نقاط التقاء وطنية مشتركة. هناك أوقات للحوار وأخرى للمواقف النضالية.

 

يحلم سامي بوطن آخر، تماماً كحلم بشير، وطن لجميع أبنائه، يضمن لهم الامن والاستقرار والاحترام. لكن هذا الوطن لا يتماشى مع الطبقة السياسية المُمسكة بالسلطة التي تبدو من جيل قديم غير جيله. ركب موجة الثورة، وفتح لها ابواب الصيفي لعلها تقود الى التغيير. فلا الثورة قادت الى مكان ولا هو استطاع أن يجلب الثورة إليه. عارضَ مختلف القوى السياسية هرباً من أن يكون من ضمن «كلن عني كلن» وخرج مع نوابه من المجلس النيابي، فبات خارج الطبقة السياسية، وخارج السلطة، وخارج القرار الوطني، من دون أن يجني ثمار معارضته.

 

كان رهانه على الجيل الجديد وعلى رياح التغيير لعلها تكنّس الطبقة السياسية التقليدية الفاشلة. بدأ بالرهان على هذا الجيل داخل الحزب، فأبعَدَ القدامى، وقَرّب الشباب. أبعدَ الحرس القديم واستقدَمَ حرسه الشخصي. فخسر خبرة القدامى من دون أن يكسب الجيل الجديد، ولم تأت محاولات التغيير الداخلية بالنتائج المرجوة، فلا الحزب تحوّل الى خلية فاعلة، ولم ينتج لا قادة رأي ولا شخصيات برزت على الصعيد الوطني.

 

يبقى صوت سامي الوحيد تقريباً الذي يعلو باسم الحزب، وانحصر الحزب في شخصه. خطابه يختصر رأي الحزب، وهو خطاب على نبرة واحدة في الصوت والمضمون. تفتخر الأحزاب الغربية الديمقراطية بأنها تضم في داخلها تيارات متعددة، وقد تتضارب طروحات التيارات داخل الحزب الواحد. وهذا ما كان تقريباً في الكتائب في عهد الجد المؤسس، حيث كان هناك المقربون من ياسر عرفات والمدافعون عن القضية الفلسطينية. وكان هناك المقربون من النظام السوري والمدافعون عنه. وغيرهم من شخصيات تتعدد آراؤها لكنها تنحني كلها امام هامة المؤسس وتنضوي تحت عباءته. اليوم لا يظهر هناك رأي آخر، والديمقراطية داخل الحزب شعار يفتش عن ترجمة على رغم سعي القيادة الى إبراز تسمية «حزب ديمقراطي اجتماعي» بحثاً عن صورة جديدة حديثة.

 

لم يرد سامي، او لم يستطع، احتضان الجميع وجَمع القدامى على تعدد أهوائهم، فتفرّقوا يبكون نضالات وإرثاً ضاعا بعدما بذلوا في سبيلهما الغالي والرخيص. غير انه يتبنّى تلك المسؤولية المُلقاة عليه، يعتبر نفسه قيّماً على هذا الإرث، وانه وَفيّ لتاريخ الحزب ونضالاته التاريخية. لذلك انخرط في معركة الاستقلال الجديد ووقفَ في الخندق الأول، مع علمه أنّ حلمه بالوطن الموعود هو أصعب من أي يوم مضى. كما أنه يدرك أنّ رهاناته تحمل مخاطر كبرى سبقَ لعائلته أن دفعت أثماناً غالية من اجلها.

 

أخصامه، الاقربون والأبعدون، وإن كانوا يقرّون بشجاعته فإنهم يسخرون، يشبّهون معاركه بأنها ضد طواحين الهواء، غير انهم ضمناً يخشون هذا الخطاب الذي يتماشى مع تطلعات الناس. أما هو فيستمرّ مؤمناً بقضية، ومدركاً أنّ الطريق التي تقود الى بناء الوطن شاقة وطويلة وخطرة، وغير مضمونة النتائج.