لا ينظر «الكتائب» إلى الرئاسة سوى بوصفها حلقة من الحلقات الضرورية لإعادة الانتظام العام إلى المؤسسات، بما يسمح، لاحقاً، بالتفكير بحل جذري لتركيبة النظام. وعليه، فإنه بالنسبة لقيادة الحزب «كل عمل لا يهدف إلى حل العقدة البنيوية للنظام ليس سوى ترقيع، يمكن أن يؤدي في النهاية إلى تمزق الجسد اللبناني.
لا شك أن انتخاب الرئيس بعد سنة ونصف من الفراغ هو إنجاز كبير، لكنه لن يكون حلاً فعلياً للمشاكل السياسية التي لا تحصى. هو حل لمشكلة واحدة، ستتبع بمشاكل عديدة تواجه كل محطة. وإذا كان اسم رئيس الحكومة سيحسم سريعاً، فإنه لن يكون مستغرباً أن يواجه تشكيل الحكومة مخاضاً عسيراً. وكذلك إعداد البيان الوزاري لن يكون أقل عسراً. والقانون الانتخابي هو حكماً محطة لخلاف كبير وأخطر، أضف إلى سلاح المقاومة والتدخل في سوريا.. وهكذا دواليك.
ما العمل؟ الإجابة الحاضرة دائماً عند الكتائبيين هي: المطلوب إصلاح النظام من أساسه، لأن استعادة بسيطة للسنوات العشر الماضية تظهر بوضوح أن المؤسسات الدستورية لم تكن مكتملة لأكثر من سنتين من أصل عشرة. ففي البداية كان تعطيل المجلس لنحو سنتين بسبب ما اعتبره جزء من اللبنانيين حكومة غير ميثاقية، تلتها ثمانية أشهر من الفراغ الرئاسي بعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، ثم 10 أشهر احتاجها الرئيس سعد الحريري بتشكيل الحكومة، فستة أشهر ليشكل الرئيس نجيب ميقاتي حكومته و10 أشهر ليشكلها الرئيس تمام سلام، أضف إلى نحو سنتين من الفراغ الرئاسي المستمر.. كل ذلك يشي أن المشكلة الأساس تكمن في النص الدستوري وآليات تطبيقه التي لا تضع ضوابط كافية لحماية المؤسسات الدستورية. وعلى سبيل المثال، لا ينص الدستور على ترشيح للرئاسة أو مهلة ترشيح، أضف إلى أنه لا وضوح في مسألة النصاب.. ولا آليات صارمة تمنع حدوث الفراغ وتمنع استغلال الغموض لتعطيل الحياة السياسية. وكذلك لا يقيد الدستور رئيس الحكومة بمهلة زمنية لتشكيل الحكومة، إنما يتركها مفتوحة..
أي نقاش في تعديل الدستور يتطلب صعود الدرجة الأولى: انتخاب رئيس للجمهورية. لذلك، لم يتردد «الكتائب» بعد عام ونصف من الفراغ الرئاسي، في التعامل مع خطوة ترشيح النائب سليمان فرنجية بإيجابية: فليأخذ فرصته، ويطلعنا على مشروعه، ونحن من جهتنا لن نحاكم أحدا على ماضيه، لكننا نريد أن نتأكد أنه سيكون رئيساً لكل لبنان.
الإيجابية الكتائبية في التعامل مع ترشيح فرنجية، تذهب إلى المدى الأقصى: إذا لم نقتنع ببرنامجه لن ننتخبه، لكننا سنتعاون معه عندما يصبح رئيساً.
كل ما يجري من حراك في مسألة الرئاسة يبدو إيجابياً بالنسبة للقيادة الكتائبية، لكنه لا يكفي لحل المعضلات التي تواجه البلد. أي حكومة ستحكم؟ حتى الآن، فإن الخيارات محدودة بين اثنين: إما حكومة وحدة وطنية، تبدو أشبه بمجلس ملل مليء بالتناقضات والمحاصصة، أو حكومة أكثرية أثبتت التجربة أنه سيتم التعامل معها على أنها إقصائية، وستشعر إحدى الطوائف أنها مغيبة.
هل من بديل عن هاتين الحكومتين؟ يعتقد قيادي كتائبي أن النظام المركزي المتبع لا يمكن أن ينتج سوى النموذجين السابقين، حكومة وحدة وطنية معطلة وغير قادرة على إدارة البلد أو حكومة أكثرية غير ميثاقية. أما حكومة التكنوقراط، فتلك حكومة «لا أمل لها في الحياة في لبنان».
التحليل السابق، يقدمه «الكتائب» كأسباب موجبة لمشروعه الذي يعتبر أنه الحل الوحيد لكل أزمات البلد: اللامركزية. فهذا النظام المبني على مجالس محلية منتخبة على أساس القضاء، وتملك استقلالية مالية وصلاحيات كبيرة في إدارة شؤونها التنموية، كالكهرباء والمياه والتعليم والاستشفاء والأشغال، فيما تبقى السياستان النقدية والخارجية والامن والجيش والأشغال التي تربط بين أكثر من منطقة من مسؤولية الحكومة المركزية.
يؤمن «الكتائب» أنها الطريقة الوحيدة القادرة على إيقاف البلد على رجله، إذ عندها لن يكون الصراع محتدماً للسيطرة على الحكومة المركزية، كما يحصل حالياً، لأن كل الطوائف ستكون مطمئنة إلى حقوقها.
يعرف «الكتائب» أن اللامركزية التي يتبناها تثير القلق عند الكثير من الناس، أضف إلى أنها تذكر بحقبة سوداء من تاريخ لبنان، لكنه مع ذلك يراهن على تغير المزاج الشعبي، واثقاً أنه صار أكثر تقبلاً لها، بعدما أيقن أن زعماء الطوائف لا يكترثون سوى لمصالحهم. يتسلح الحزب بإحصاءات تثبت نظريته «80 بالمئة من اللبنانيين تؤيد شكلاً من أشكال اللامركزية».
ويستكمل «الكتائب» الأسباب الموجبة للامركزية بالتأكيد أنها أفضل أنظمة الحكم عالمياً، إذ أن «95 بالمئة من دول العالم مقسومة إلى أقاليم وولايات لامركزية تصل في 51 بالمئة منها إلى مرحلة الفدرلة. ولم تساهم، على خلاف الشائع، إلا في زيادة الشعور بالمواطنة».
وإذ يؤكد المصدر أن الحزب بصدد تقديم مشروع متكامل يعبر فيه عن رؤيته للامركزية مع بداية العام، يشير إلى أن ذلك لا يعني أنه لا يؤيد معظم ما جاء في المشروع الموجود في أدراج الحكومة والذي أعده الوزير السابق زياد بارود وقدمه الرئيس السابق ميشال سليمان.
تحريك المشروع بشكل فعلي، إن في مجلس الوزراء أو لاحقاً في مجلس النواب، يتطلب وجود رئيس جمهورية. فإقرار مشروع اللامركزية يتطلب تعديلاً دستورياً. و «الكتائب»، الذي لا يساير حلفاءه المتحفظين على الخوض في تعديل الدستور، يضع على كاهله مهمة إقناع كل الناس بأهمية هذه الخطوة، مع المحافظة على ترتيب أولوياته: انتخاب الرئيس ثم إجراء الانتخابات، على أن يطرح المجلس الجديد مسألة تعديل الدستور، ليس فيما يتعلق باللامركزية فحسب، إنما بما يؤدي إلى سد كل الثغرات، وخلق منظومة دستورية تحصن الدولة وتنهي مرحلة انعدام الثقة والحقد بين اللبنانيين، والتي إذا ما استمرت لن تكون نتيجتها أقل من حرب أهلية.