ارتبط حزب «الكتائب اللبنانية» منذ تأسيسه (21ـ11ـ1936) بالكيان والصيغة، ونشأ في فضاء الانقسام المجتمعي الذي رافق قيام «دولة لبنان الكبير» وأعقبه. فقد حدد «تاريخ حزب الكتائبـج 1» النشأة في ظل انفجار أبعاد الثنائية المجتمعية، وتعدد الاتجاهات القومية في الكيان الناشئ. وهذا ما جعل قيام «المنظمة الجديدة» ردة فعل سياسية على الدعوات الوحدوية والهوية القومية العربية والسورية. وقد هيمنت هذه النظرة على مسار الحزب وامتداد تاريخه الطويل، لدرجة أن الموقف من الحزب وتقويم دوره بقي محصوراً، مبدئياً، ضمن هذا الإطار المحدد.
وقد سوّغ الحزب نشأته كـ «ضرورة وطنية». وأشار «تاريخ حزب الكتائب» الى هذه المسألة مباشرة. حيث اعتبر أنه ضمن هذه الفضاءات المتعارضة والمواقف المتناقضة من «الكيان الناشئ»، كان لا بدّ من حركة لبنانية تتخطى الواقع السياسي المتردي وتُعيد اللحمة الى المجتمع المنقسم على نفسه في محاولة لإنقاذ لبنان دولة وشعباً وأرضاً وتاريخاً. من هنا كانت منظمة الكتائب «حاجة»، بعدما انقسم البلد على نفسه و «ماعت شخصيته وكاد أن يفقد هويته».
لذلك اعتبر الكتائب نفسه أول «وعي قومي»، وأول محاولة لإيجاد نظام وطني إصلاحي يرتكز على الاتحاد الروحي بين جميع العيال والطبقات والطوائف التي تكّون الوطن اللبناني. فـ «الهوية الكيانية» او الفكرة اللبنانية كانت الهاجس الدائم. باعتبارها «حقيقة تاريخية» ثابتة موغلة في القدم ومتجذرة في التاريخ. لدرجة فرض «النظام العام» على العضو الحزبي في بدايات الانطلاقة «تقديس لبنان»، كأولى الواجبات المفترض بالمحازبين الإيمان بها والعمل بمقتضاها.
ويبدو أن الطابع المسيحي للحزب وطروحاته السياسية، لم تكن في تلك اللحظة التاريخية. وفي إطار الانقسام المجتمعي السائد مسألة خلافية «حادة» او مثيرة للجدل والنقاش «الملل». بل لعلها كانت دافعاً ومحركاً لقيام «الطرف الآخر» ـ المسلم بتأسيس أحزاب متماثله في الطبيعة ضمن «بيئته»، وإن كانت مغايرة في الطرح والتوجه مثل «حزب النجادة» (1936) اولاً بـ «طابعها السني» و «منظمة الطلائع» (1944) لاحقاً بـ «طابعها الشيعي». و «تساند» طرفي الانقسام المجتمعي و»تعاونا» سوية في معركة الاستقلال، برغم الخلافات بينهما. وتوافق الحزبان على ان يتولى الشيخ بيار الجميل (كما يشير تاريخ حزب «الكتائب» ج 2) القيادة ودعوة الشعب الى الإضراب العام والشامل حتى الإفراج عن «رجالات السلطة الشرعية». وبالتالي لم يرضخ الشيخ بيار الجميل الى الضغوط الفرنسية بالتخلي عن «تحالفه» مع الطرف الآخر، الأمر الذي أفشل محاولات سلطة الانتداب في إثارة الانقسام المسيحي ـ الإسلامي.
وعليه فإن هذه الخصائص في حزب «الكتائب» (الفكرة اللبنانية وطبيعته الطائفية)، جعلته تعبيراً واضحاً عن البيئة اللبنانية بأبعادها المجتمعية والسياسية والاقتصادية، وعاكساً لتناقضاتها الحادة، الأمر الذي خوّله لأن يكون أبرز أقطاب «الثنائية المجتمعية» في النظام السياسي وتوازناته الطوائفية، وأهم القوى السياسية التي تمثل بيئتها الخاصة وتحمل «همومها» وتجسّد «هواجسها».
هذه الوضعية «المميزة» جعلت الكتائب في موقع «المتهم» من قبل «الطرف الآخر»، سواء المتماثلة معه في طبيعة بنيته «الطائفية» أو المتعارضة. وهذا ما عزز موقع الحزب وزاد من فعاليته. غير أن هذه الوضعية في المقابل ساعدت الحزب، في بعض المفاصل التاريخية، في اتخاذ مواقف متعارضة مع المزاج الشعبي العام لـ «بيئته»، لعل من أهمها الاتجاه الاستقلالي الذي اعتمده في العام 1943، والتسوية التي دخلها عقبت أحداث 1958، والسير «باتفاق الطائف» 1989.
اليوم، وبعد تسعة وسبعين عاماً على قيام حزب «الكتائب اللبنانية»، فإن الوضع اللبناني يبدو وكأنه لم يزل قابعاً في مرحلة الثلاثينيات من القرن الماضي سواء لجهة الانقسام المجتمعي واتساع مجالاته، او لجهة الأخطار التي تتهدد الكيان وجودياً وتضع مستقبله أمام تحديات غير معهودة، او لجهة الصيغة المترنحة تحت وابل الصراعات الطائفية والمذهبية بين الفئات اللبنانية وقواها السياسية غير المتناغمة. من هنا، فإن الحزب قد يجد أن حضوره لم يزل مبرراً ومطلوباً، طالما الأمور متماثلة مع ما كانت عليه عند قيامه، من دون تطور أو تقدم يمكن الاعتداد بهما. بالتالي، فإن المسائل التي أدّت لتأسيسه تبدو وكأنها لم تزل هي نفسها. بل عززها اتساع مجالات التردي السياسي والتشظي المجتمعي. غير أن مبررات الحضور والاستمرارية اليوم هي غير ما كانت عليه في ثلاثينيات القرن الماضي. فبرغم الملامح العامة المتقاطعة مع «الماضي» القريب، ثمة تحديات «وجودية» غير مسبوقة تواجه الحزب، سواء في البيئة المجتمعية الحاضنة، أو في البنية التنظيمية الخاصة، مما جعل حزب الكتائب محاصراً ودوره مقيداً، يتم «التطاول» عليه و «قضمه» رويداً رويداً.
فعلى مستوى البيئة المجتمعية الحاضنة، تعاظم حضور بعض القوى السياسية الفاعلة في الوسط المسيحي، التي تنافس الحزب وتزاحمه على تصدر التمثيل المسيحي، واللعب على «مخاوفه» وإثارة «هواجسه». وقد أتقنت هذه القوى «فن التحريض» الطوائفي والخطاب المذهبي والسلوك الفئوي، مستندة الى عمق التشظي المذهبي، والى معطيات سياسية ومادية وإعلامية وعلاقات داخلية وخارجية مؤثرة وفاعلة، الأمر الذي جعل خطابها اكثر استقطاباً. لكنه اكثر فجاجة من خطابات «الكتائب» في «الأوقات المرة» وأيام الاحتراب الداخلي وسنواته العجاف. وهذا ما قد يحمل في طياته تحضيراً لانفجار مجتمعي جديد، يذهب بالبلد وناسه «طوعاً» الى «انتحار جماعي» تحت مسوّغات وشعارات رنانة ومكررة.
أما على مستوى البنية التنظيمية الخاصة، فإن الحزب لم يزل يعاني من غياب المؤسس. فبرغم كل الرؤساء الذين تعاقبوا على رئاسة الحزب (د. ايلي كرامة، د. جورج سعاده، كريم بقرادوني، الشيخ أمين الجميل) وقيادته، فان الشعار الذي رفعه جورج سعادة، رئيس الحزب السابق، من «حزب المؤسس الى حزب المؤسسة» دونه الكثير من العقبات والتحديات.
لقد حاول الحزب مؤخراً «تجديد شبابه»، من خلال إبراز دور الشباب وتعزيز مواقعهم التنظيمية وانتخاب الشيخ سامي الجميل، لتصدر رئاسة الحزب وقيادته. غير أن هذه المسألة زادت من انغماس الحزب في «إرث العائلة» (وهذه سمة ملازمة لغالبية الأحزاب اللبنانية) من جهة، وقد تولد هذه الخطوة ارتدادات داخل صفوف الحزب والعائلة من جهة اخرى.
ومن الموضوعية القول في ذكرى تأسيس حزب «الكتائب»، ان مسؤولية ما وصل اليه البلد وناسه من هوان وتراجع وتدهور، في المراحل الماضية، لا يجوز إلصاقها بطرف دون آخر، وبالتالي لا يتحمّلها هذا الفريق دون سواه، وإن اختلفت نسبة المسؤولية بين الأطراف السياسية. غير أن المناسبة في المقابل تدفع الى مراجعة التجربة نقدياً من جهة، وتحميل الأطراف السياسية كافة في اللحظة التاريخية الراهنة مسؤولية ما يواجهه البلد وناسه من مآسٍ وويلات من جهة أخرى. وفي الحالات كافة، فإن هذه المرحلة تضع الكتائب في مأزق حرج لا تُحسد عليه، وتفرض عليه خيارات صعبة: فهل سيندفع نحو المزيد من التراجع ويقبل بالمحاصرة ومحاولات التقييد؟ أم سيُضطر الى المزايدة لمجاراة المنافسين؟ أم سيستفيد من التجارب الماضية ويبقى في سياسة «الاعتدال» التي حاول مؤسّسه المحافظة عليها؟