IMLebanon

الرقص على الدماء

 

والآن ماذا بعد؟ وإلى أين من هنا؟ وهل من فرصة نجاة ولو ضئيلة أمام بعضنا غير القليل لتفويت ما صار يُدبّر في وضح النهار، بعدما كان يقتصر تدبيره على ظلام الليل وعتمته؟ يصعب الجواب. فالعمل جارٍ ومستمر على قسمة اللبنانيين، وتعميق هذه القسمة وصولاً إلى رفدها بالدماء وتكليلها بالدموع. وهل عند التابعين أو المتعاملين مع الأوكار المسماة سفارات ما هو أرخص من الدماء والاستثمار فيها؟ طبعاً لا حاجة إلى العودة إلى الوراء والتذكير بالوقائع المرتكبة، لا في لبنان ولا في سوريا ولا في العراق ولا في اليمن… ولا في غيرها من الأصقاع العربية والعالمية، لأن القائمة طويلة وتشمل سلسلة لا تنتهي من الجرائم التي تفيض أرقامها عن المساحة المتاحة.

 

وعلى ما رأينا خلال الساعات الأخيرة فإن النافخين في الفتنة كثر، وكثرتهم مقصودة ومدبّرة. وهدفها التعمية على الهوية الأصلية للمستفيد المباشر من تأزّم الأمور ووصولها إلى حيث لا رجعة ممكنة من بعدها. وهؤلاء بمعظمهم، إن لم يكونوا كلهم اختاروا، وعن وعي عميق، أن يكونوا أُجراء يتساوون في العمالة. لكنهم، في الحقيقة، يصارعون لنيل الحظوة التي لا تُعطى بسهولة، وإن أعطيت فإنها سرعان ما تُسحب، أحياناً بسبب وأحياناً أخرى من دونه. والهدف من التلاعب بهم حثّهم على المزيد والمزيد. لذلك هم في حال مستمر من التنافس المحموم الذي كثيراً ما يقود إلى نشوب الخلافات وتعاظم الحسد… خصوصاً أن أجورهم تتفاوت وتتنوّع بين الريال والدولار… لكنهم مع ذلك يشتركون في الحرص على التقيّد الحرفي بكل ما يُملى عليهم، وهمّهم الوحيد دوام الصلة وصون خيوطها وتمتينها حتى لا يصيبها الوهن الذي قد يقود إلى الاستغناء عن… عمالتهم.

غداً أو بعده سيُنسى فادي البجاني كما نُسي غيره من الضحايا بعد الفراغ من الاستثمار فيهم والمتاجرة بهم. غداً أو بعده سنسمع بغيره من الضحايا الذين يجري إعدادهم وتسمينهم، سياسياً وطائفياً وإعلامياً… ليُرمى بهم في الأتون إياه. أتون المصالح الوضيعة والأهداف الرخيصة التي تعبّر عنها دعوات السياديين الجدد وتحالفاتهم أو «تقاطعاتهم» التي تشمل، إلى الميليشيويّين القدامى، ما يسمى بـ «رجال الأعمال» وتابعيهم من صبيان التغيير وصباياه، هو في الواقع لا يتجاوز أن يكون رقماً لا قيمة له بذاته إن لم يخدم الحسابات السياسية والمالية والاقتصادية الخاصة بحفنة ضئيلة من أصحاب العقول المجرمة والنفوس المريضة، والتي تتلخّص بمفاقمة التبعية وتأبيدها حرصاً على العوائد وتعظيماً لها.

في الأثناء يتابع سامي الجميل وأشباهه من الورثة ما دأب عليه والده وجدّه من قبله، المسيرة إياها. وهي المسيرة التي لا يخجل من التباهي بها غافلاً عمّا جلبته على البلد وعلى ساكنيه من ويلات مستمرة وكوارث متناسلة قادت وتقود إلى هجرة مئات الآلاف، وأودت بما يعادلهم أو يفيض عنهم. فالوصفة التي جعلت من والده ومن قبله جدّه متزعّمين لا منافس لهما تحتاج إلى من يتابعها ويسهر عليها وإن أتيح له تطويرها. وهل هناك من هو أجدر من هذا «الفتى»… ولا بأس من سقوط ضحايا. فالضحايا هم عماد الزعامة ووقودها، ومن دونهم تفقد بريقها المصطنع بالتأكيد.

كان يمكن لفادي البجاني، طبعاً مع بعض الصعوبة التي تجمع أبناء البلد الواحد، أن يواصل حياته كأيّ لبناني آخر. وكان من حقّه أن يحلم بغدٍ آخر ومختلف، لكنّ المشكلة أن فادي وغيره من اللبنانيين الموزّعين عن وعي أو لا وعي بين متزعّمين تافهين، لم يملك، مثله في ذلك مثل الكثيرين من اللبنانيين الذين ربما كان لا حول لهم، ما يؤهّله لصدّ تأثير القصف الثقيل الذي تشنّه الغرف الإعلامية السوداء المكلّفة بمهمة غسل العقول أو بالحد الأدنى تسميمها، والتابعة للمتزعّمين أنفسهم.

 

إن من يسترهن اللبنانيين للحفاظ على مكاسبه الموروثة أباً عن جدّ وربما جدّ الجدّ، لن يسأل عنهم سواء ساء عيشهم أو رخص موتهم. بل سيتعامل معهم بوصفهم استثماره المضمون لديمومة الزعامة وأبديتها.

بدءاً من اليوم سنسمع الكثير الكثير من السجع الرديء الذي ينسج على اسم الكحالة وشهرة كوعها، وفي بال مدبّجيه أنهم يرتقون إلى ذرى بيانية لم يسبقهم إليها أحد. وهم فعلاً كذلك، إذ هل هناك غيرهم من يملك القدرة على إبداع الرداءة والاحتفاء بها؟ المؤكّد أن لا، بدليل أن لا أحد يبالي ولا أحد يسأل.

مرّة جديدة يستهان بالوعي اللبناني كأبشع ما تكون الاستهانة وبأحقر الأدوات وأبشعها.

مرّة جديدة يُساق اللبنانيون، وبمختلف مشاربهم، وتحديداً فقراءهم، إلى المسلخ الذي لم يغادروه ولن يغادروه إلا حين يمتلكون القدرة على المحاسبة. محاسبة المسؤولين الفعليين عن الاستهتار بهم وبوعيهم. فلو حوسب بيار الجميل وابنه أمين لما قُدّر للحفيد أن يفخر بمسيرة كارثية تبعث على العار وليس التباهي. وما ينطبق على هذه السلالة ينطبق على غيرها من السلالات التي ورثت «الناس» ومعها الأملاك. وليس آخرهم تيمور وليد جنبلاط.

من جديد تأتي الأحداث لتسلّط الأضواء على حقيقة هؤلاء المتزعّمين وميلهم السياسي «الفطري» إلى الرقص على الدماء.