Site icon IMLebanon

هل من عاقل يستجيبُ لدعواتنا قبل فوات الأوان؟!

 

ثمَّة ظاهرة مقلقة طغت على المستجدات اللبنانيَّة كطبق يومي، تتمثَّل في تكرار أحداث ذات طابع أمني مرتبطة بشكل أو بآخر بأداء العناصر التابعين لحزب الله؛ من تلك الأحداث حادثة قرية شويَّا الجنوبية (بين عناصر من الحزب وأهل البلدة)، والمناوشات المتكررة في بلدة رميش الجنوبية (بين عناصر من حزب الله وأهالي البلدة) أحداث خلدة المتكررة (بين عناصر من الحزب وعشائر العرب)، وأحداث السَّعديات (أيضاً بين عناصر من الحزب وعشائر العرب) والاعتداء على قوات اليونيفيل والتي أدّت إحداها إلى استشهاد أحد عناصرها، وأحداث بلدة العاقورة (بين عناصر من الحزب وأبناء البلدة) ومؤخراً حادثة مقتل المسؤول السابق في القوات اللبنانية في بلدة عين ابل (والتي يُشتبه بأنها عملية اغتيال مدبَّرة)، والتي تلتها حادثة عين الرمانة (ما بين عناصر من الحزب وحركة أمل من جهة، وأهالي بلدة عين الرمانه من جهة أخرى) وغيرها وانتهاءً بحادثة كوع الكحالة، والتي لا يفصِلها البعض عن الاغتيالاتِ المجهَّلة الفاعلين وانفجار مرفأ بيروت، والتي نرى فيها مؤشرات تُنذر بفوضى أمنيَّة عارمة، لأن كل حدث منها كفيل بانفلات الأوضاع من عُقالها وإقحام لبنان في أتون حرب أهليَّة، يدرك الجميع مخاطرها.

تلك الأحداث المُتكرِّرة، وإن كانت عرضيًّة، لها مدلولات خطيرة على عمق حالة الانقسام الحادِّ التي تشهدها اليوم مكونات الشَّعب اللبناني، والتي ظهرت بوادره منذ ما يزيد عن عقدين من الزَّمن وبالتَّحديد منذ إصرار النِّظام السوري على إيصال العماد إميل لحود إلى سدَّة الرئاسة، وبالتحديد اعتباراً من تاريخ انتخابه رئيساً للجمهوريَّة أي 13 تشرين الأول عام 1998، الأمرُ الذي أدّى وكرَّس انقسام المكونات السِّياسيَّة اللبنانيَّة بين محورين، الأول ممانع يحمل لواء التَّصدي للعدو الإسرائيلي ويتصدره حزب الله، وآخر يُغلِّبُ خيار النُّهوض الاقتصادي بموازاة التَّصدي للعدو، وتولى ريادته دولة الرئيس رفيق الحريري الذي اغتيل بتاريخ 14 شباط عام 2005 على أثر امتعاضه من تمديد ولاية الرئيس لحود لغاية 23 تشرين الثاني 2007. وقد أدّى حادثُ اغتياله إلى زلزلة الأوضاع السياسيَّة في المنطقة، وخروج جماهير عارمة نادت بكف يد سوريا عن التَّدخُّلِ في الحياة السِّياسيَّة في لبنان، الأمر الذي لاقى تعاطفاً دولياً تُرجم بضغوط مورست على النِّظام السوري دفعته إلى إخراج جيشه قسريًّا من لبنان، بما في ذلك جهاز المخابرات الذي تحكَّم بمفاصل الحياة السياسيَّة في لبنان لعقدين من الزَّمن.

أدّى اغتيال الحريري إلى إخلال فادح في التَّوازنات السياسيَّة التي كانت قائمةً قبل اغتياله، بحيث أخرجَ المكوّن السُّني عن المعادلة السِّياسيَّة، وأقصيت مكونات سياسيَّة أخرى متناغمة معه (حزب القوات اللبنانية، حزب الكتائب، الحزب الإشتراكي)، وغُلِّبت كفَّةَ قوى الممانعة، وفي طليعتها حزب الله وإلى جانبه حركة أمل والتيار الوطني الحر، وأحزاب أخرى تدور في فلك النِّظام السوري، الأمر الذي مكَّن ما اصطلح على تسميته بالثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر من التَّحكم في إدارة شؤون الدَّولة، ومنذ ذاك التاريخ ساد منطق تعطيل المؤسَّسات الدستورية، واعتماد أسلوب الإبتزاز السياسي كوسيلة لتحقيق المكاسب السياسيَّة والمصالح الفئويَّة، ما مكَّن هذا الفريق من الإتيان برؤساء جمهوريَّة يتماهون مع توجهاته، باعتماد آليَّة تقوم على الاتفاق المسبق على المرشَّح (خلافاً لروحيَّة النص الدستوري)، وقد رُوِّجَ لاعتماد مصطلَحِ «الاتِّفاق على سلَّة مُتكاملة» بحيث لا يُقتصر على الاتفاق على شخص رئيس الجمهورية بل على تشكيل الحكومات وتعيين كبار الموظَّفين، وهذا ما يترجِمُ إصرار فريق الممانعة حاليًّا على المناداة بالحوار بغرض التَّوافق مُسبقاً على شخص رئيس الجمهورية ورئيس الحُكومة وربما تشكيلتها وبيانها الوزاري، وعلى من ستوكلُ إليهم مهام حاكميَّة مصرف لبنان وقيادة الجيش والمديريَّة العامة للأمن العام والمُديريَّة العامة لقوى الأمن الداخلي وغيرها من المراكز الحسَّاسة.

تمكَّن محور الممانعة من الإمساك بالقرار السِّياسي منذ أواخر تسعينات القرن الماضي، وفرض توجُّهاته، والتي بدت مُتعارضة مع ما كان يشهده لبنان من نهضةٍ عمرانيَّةٍ واقتصاديَّة، وبدأت المؤشرات الأولى تتظَّهر بفرملة ورشة إعادة الإعمار، ومن ثم بوقف مجمل النَّشاطات الإنشائيَّة، وبطء عجلة النُّمو الاقتصادي، على خلاف ما كانت عليه في المرحلة السَّابقة (ما بين عامي 1990 و1998) ما لبث أن تطوَّر إلى ركود اقتصادي، وصولاً إلى حالة الانهيار الكلي التي نشهدها اليوم في مختلف المجالات الاقتصاديَّة والماليَّة والنَّقديَّة والمصرفيَّة والاجتماعيَّة… الخ، والتي لم يسلم منها القطاع التربوي وحتى التعليم الجامعي، ولكن أكثر المُتضررين على الإطلاق كان القطاع العام، الذي يعاني اليوم من حالة شلل أفقدته قدرته على تسيير المرافق العامَّة والحيويَّة في الدَّولة، وعجزه عن تلبية الخدمات المسؤول عن توفيرها، وانعكاس ذلك سلبياً على أداء القطاع الخاص، الأمرُ الذي أوصل الانتاج القومي إلى أدنى مستوياته.

ومن أبرز سمات هذه الحقبة التي يصفها البعضُ بالظَّلاميَّة، تميُّزُها بعدم الانتظام في الحياة السِّياسيَّة وتعطيل الاستحقاقات الدستوريَّة الهامَّة، وتطييف الوزارات، والشُّغور في المناصب السياسيَّة والمراكز الوظيفيَّة وحصر شاغليها بالمحاسيب والانتهازيين المحظيين… الخ. وما أزمةُ الانتخابات الرئاسيَّة التي نحن بصددها الآن إلاَّ صورة من تلك الصُّور التَّعطيليَّة العبثيَّة.

ثمَّة سؤال جوهري يطرح ذاته، ينبغي أن يتصدّى له محور الممانعة وفي طليعتهم حزب الله، والبحث فيه بعمق، واستخلاص العِبَر على ضوء ما يخلصون إليه من إجابات شافية، ويتمحور حول: ما هي الأسباب التي دفعت بمعظم المكونات اللبنانية والعديد من الدُّول العربيَّة والشَّعب العربي قاطبةً إلى تغيير موقفه من المقاومة والحزب على وجه الخصوص من موقف مؤيِّدٍ وداعم إلى موقف رافض كُلِّيًّا لتوجُّهاته الإقليميَّة وأدائه المحلي؟

وكي لا يعتقد البعضَ أن الإجابة على السُّؤال تكمن في تحديد أسباب الأحداث الأمنية الأخيرة المباشرة وغير المباشرة، لا بدَّ من التأكيد على أن تلك الأحداث، ليست سبباً للتَّحوُّل الجوهري في مزاج اللبنانيين والرأي العام العربي، ولا تندرج ضمن مسببات الانقسام السِّياسي، إنما هي انعكاسٌ لتعارض توجُّهات محور الممانعة في لبنان مع تطلُّعات باقي مكونات الشَّعب اللبناني ومقتضيات المصلحة الوطنيَّة العليا، واختلاف الرؤية بين المحورين الرئيسيين اللذين أشرنا إليهما.

يرى فريق الممانعة أن بعضاً من المنتقدين لأدائه يتجاهلون مخاطر العدو الإسرائيلي الحاقد والمُتربص بلبنان والمتأبط شرا به، وهم يسيؤون للمقاومة من حيث يدرون أو لا يدرون، ويصلُ الأمر ببعضهم إلى حدِّ التآمر عليها. ومن هنا ينبعُ حرصُه على الاتيان برئيس للجمهوريَّة لا يطعن المقاومة في ظهرها. كما يدّعي أنه لم ينخرط يوماً في الفساد المالي الذي أدّى إلى انهيار الاقتصاد الوطني. في المقابل يرى الفريق الآخر غير الممانع سياديون وتغييريون، أن حزب الله ومقاومته المزعومة أضحيا يُشكِّلان عبئًا على لبنان، ويتحمّلان مسؤوليَّة الانقسام العامودي في المجتمع اللبناني، كما تبعة الانهيار الاقتصادي وحالة العزلة التي وصل إليها، ويعزون ذلك لجملة من الأمور، أهمها:

– تمويل الحزب من جهةٍ خارجيَّةٍ (إيران) بعيداً عن أعينِ السُّلطات الرسميَّة، ما جعلهُ أداةً طيِّعةً لتنفيذِ مآربِها الإقليميَّة، الأمرُ الذي دفعه للإنضواء في محور الممانعة، وإقحام ذاته في آتون صراعات إقليميَّة، وتدخُّله في شؤون الدول العربيَّة، والانخراطِ في التَّقاتُل الدَّاخلي الدَّائر في بعضها، والانحياز التام لصالِح إيران في وجه الدُّول الخليجيَّة التي لطالما وقفت إلى جانب لبنان ودعمته سياسيًّا في معرض صراعه مع العدو الإسرائيلي، وأمدَّته بالمساعدات الماليَّة لرأب الأضرار التي كانت تلحق بلبنان جراء ذلك، هذا بالإضافة إلى المساعدات والقروض المُيسَّرة التي كانت تُقدِّمها له بغرض التَّحفيف من وطأة أزماته الاقتصاديَّة والماليَّة والمعيشيَّة.

– زج لبنان في آتون صراعات محوريَّة إقليميَّة، واعتماد خيارات خارج إطار الإجماع العربي (تولى تجسيدها وزراء الخارجيَّة المتعاقبين)، ويرى فيها البعضُ تغييراً لوجه لبنان العربي، وتضاف إليها الإساءات المتكرِّرة التي وردت على ألسن وزراء، سواء تلفظوا بها عن قصد أو كزلة لسان، ولكنها في الحقيقة تُعبِّر عن حقيقة مشاعرهم، التي تنم عن كراهية غير مبرَّرة لبعض الدول الخليجيَّة.

– تحكُّم محور الممانعة في إدارة شؤون الدَّولة، لا بل استئثاره بمراكز القرار في الحكم، وإقدامه على تعطيل الحياة السياسيَّة وشلِّ المؤسَّسات الدستوريَّة، وإعاقة إنجاز الإستحقاقات الأساسيَّة في مواعيدها ولا سيَّما الانتخابات الرئاسية وتسمية رئيس الحكومة، وتبني خيارات ماليَّة خاطئة كرفض دفع مُستحقات الديون المترتبة على الدَّولة.

– التَّعطيلُ المتكرِّر للدستور، جرَّاء تأويل نصوصه ما لا تحتمله، وتفسيرها على خلاف مقاصد المشرّع، والسعي إلى تكريس أعراف دستوريَّة من شأن العمل بها تغيير طبيعة النِّظام السياسي في لبنان، وتعطيل آليَّات العمل الديمقراطي، وضرب منهجيَّة العمل المؤسَّساتي من خلال التوظيف العشوائي وتفضيل المحاسيب والمقرّبين بتجاوز قانون الموظَّفين، ومخالفة الأصول التي ترعى تعيين الموظَّفين في الدَّولة، وتجاوز مجلس الخدمة المدنية بإدخال أفواج من المتعاقدين والمتعاملين مع الوزارت خارج الأطر المرعيَّة الإجراء قانونًا، ما أدى إلى تدنى مستوى العاملين في القطاع العام، وعدم أهليَّة معظمهم لتولي المناصب التي يشغلونها.

– التَّعامل بروحيَّة استعلائيَّة تهويليَّة مع باقي المكونات الوطنيَّة، وتهميش بعضها، والتَّفرد بالخيارات السياسيَّة الكبرى، وحصر مقاومة العدو بالحزب دون غيره من المكونات، والتَّهويل الحزب بفائض القوَّة، بإساءة استعمال سلاحه أو التَّهديد بذلك (غزوة بيروت في السَّابع من أيَّار)، لفرض توجُّهاته وخياراته على باقي المكونات، أو نعت من يخالف إملاءاته بالخيانة أو العمالة، أو بالمنصاعين لتعليمات السَّفارات الغربيَّة، ويُضيفُ البعض الحؤول دون تحقيق العدالة، بإعاقة سير الملاحقات العدليَّة، ورفض الأحكام القضائيَّة، والامتناع عن تسليم المحكوم عليهم والمطلوبين قضائيًّا، والتَّدخُّل في عمل القضاة.

تدعونا الموضوعيَّة للقول بأنه من غير الإنصاف تحميل محور الممانعة وحده تبعات الانهيار الاقتصادي، لأن السَّبب الرئيسي للإنهيار هو الفساد المستشري لدى جميع من تعاقبوا على السُّلطة بمن فيهم قوى الرابع عشر من آذار، إلّا أن الموضوعيَّة ذاتها تدعونا للقول: أن أداء الحزب الاستقوائي في تعاطيه مع باقي المكوِّنات الوطنيَّة، وإصراره على التَّفرد بقراري الحرب والسِّلم، أضحى أقرب إلى تلك الممارسات التي اعتمدتها المنظمات الفلسطينيَّة في لبنان إبان السبعينات، وتلك التي اعتمدها ضباط المخابرات السوريَّة في التِّسعينات، والقائمةِ على فرض التَّوجُّهات العامَّة وإملاء التَّعليمات وتحديد الخيارات، هذا بالإضافة إلى تهميش المكونات المعارضة لتلك التوجهات والخيارات، والتي أدَّت إلى تفجير الوضع في لبنان أكثر من مرَّة.

أما وقد حصل الانهيار الاقتصادي والمالي، أرى من الضروري العمل على تدارك الانهيار الأمني تلافياً للإنزلاق في آتون حرب أهليَّة، من هنا دعوتنا لكافَّة الفرقاء للتَّعقل واعتماد خطاب سياسي موزون، ولأركان المقاومة بضرورة إعادة تقييم الأداء الدَّاخلي، ضماناً للإستحواذ مجدَّداً على ثقة الشَّعب، لكي تبقى روح المقاومة متجذِّرة في ضميره ووجدانه، ولكي يبقى الشَّعب كل الشَّعب ظهيراً وداعماً لها، إذ لا نجاح لمقاومة لا تحوذ على ثقة شعبها، وهذا يكون بالموازنة ما بين مقتضيات العمل المقاوم، ومستلزمات النهوض بالوطن، وضمان مشاركة كافَّة مكوناته في الإدارة السِّياسيَّة.