كشفت حادثة انقلاب شاحنة «حزب الله» على كوع الكحالة، ليس فقط عن حمولة الشاحنة وإنما عن حمولة النفوس المحتقنة التي أفرغت ما تختزنه على الملأ وبِلا «تكرير»، ليصبح الأمن القومي الهَش في مهب عاصفة جديدة.
خلال لحظات عاد شبح بوسطة عين الرمانة ليحوم حول البلد من بوابة الكحالة، وكادت الحرب الأهلية ان تطلّ برأسها مجدداً من كوع أمني – طائفي، لا يقود سوى إلى السقوط المدوي في قعر الهاوية السحيقة، اذا لم يستعمل أصحاب التأثير مكابحهم لوقف الانزلاق نحوها.
لقد أظهرت حادثة الكحالة مرة أخرى مستوى هشاشة البلد الفاقِد للمناعة، وقابليته للاشتعال في اي لحظة وهو المُقيم أصلاً فوق برميل بارود ممتلئ عن آخره.
كان يكفي فقط لحادث مروري ان ينبش كل المخزون المتراكم من الأحقاد والهواجس والغضب واللاثقة، وان «يدهَس» العيش المشترك الذي سال دمه في وسط الطريق، على وقع صيحات تنادي بالتقسيم.
وبمعزل عن تعدد الروايات وتضاربها، فإنّ الأكيد هو انّ اشتباك الكحالة وضعَ الجميع أمام الحقيقة المرّة وهي ان التكيّف مع الانقسام الحاد حول مفاهيم وخيارات استراتيجية وتكوينية لم يعد سهلاً بعدما وصل الى حدوده القصوى، كما يتبيّن من الاختلاف الواسع بين المكونات اللبنانية على التصنيفات والتوصيفات والتعريفات والمقاربات لكل تفاصيل إشكال الكحالة.
والأخطر والأسوأ انّ واقعة الكحالة التي يمكن أن تهز دولة مكتملة المواصفات، حصلت في ظل شغور موقع رئاسة الجمهورية ووجود حكومة تصريف أعمال، ما يعطي انطباعاً بأن لبنان مكشوف كلياً ويفتقر الى ضابط إيقاع سياسي لا يكفي لتعويضه «الضابط العسكري» مع أهمية دور الجيش في لجم التوترات المتجولة. والأرجح انه لولا تَهيّب البعض للحرب الاهلية المجرية من جهة وعدم اكتمال عناصرها العملانية اللوجستية من جهة أخرى لكانت قد وقعت بين ليلة وضحاها.
واللافت هو تلاحق الأحداث الأمنية المتنقلة خلال وقت قصير، من القرنة السوداء شمالا مروراً بمخيم عين الحلوة وعين إبل في الجنوب وصولاً الى الكحالة وإصابة سيارة وزير الدفاع موريس سليم بعيارات نارية، ما يطرح علامات استفهام حول سر هذه «المصادفات» المريبة التي ضربت موعداً مشتركاً!
وهناك من استخصر على وقع تلك الأحداث، تحذيرات الدول الخليجية التي دعت رعاياها الى مغادرة لبنان او توخّي الحيطة والحذر. والمفارقة ان التوترات الأمنية توالت بعد رَن جرس الانذار الخليجي، فهل كان يستند هذا الانذار الاستباقي الى وقائع يجهلها المسؤولون اللبنانيون من سياسيين وامنيين ام هناك ما هو ابعد من ذلك؟
اما بالنسبة إلى «حزب الله»، فإن القريبين منه يضعون ما حصل في الكحالة ضمن مسار الاستهدافات المماثلة التي تعرّض لها في شويا وخلدة والطيونة، بُغية استدراجه الى مواجهة داخلية وحَرف سلاحه عن وجهته الأصلية ضد الكيان الاسرائيلي.
ويؤكد هؤلاء ان الحزب لا يزال ثابتا عند قراره بتفادي الوقوع في فخ الفتنة الطائفية أو المذهبية مهما جرى استفزازه، وذلك على قاعدة انّ حماية السلم الأهلي تستحق بذل التضحيات، خصوصا ان المحافظة على الاستقرار اللبناني هي في حد ذاتها شكل من أشكال المواجهة مع العدو الذي سيكون المستفيد الأكبر من اي اقتتال.
ويُنقل عن قيادي في الحزب اعتباره ان ما حدث في الكحالة يندرج في سياق محاولة إشغال المقاومة وإلهائها عن دورها المركزي ضد الاحتلال الاسرائيلي، «الأمر الذي لا يخدم سوى العدو».
ويضيف القيادي: نحن في أفضل جهوزية وأفضل مرحلة لمواجهة اسرائيل، ولكن سياسة المقاومة هي دفاعية ولن تكون البادئة في اي حرب، إنما اذا اعتدى الاسرائيلي فنحن على أتمّ الاستعداد لمواجهته.